عدنان حسين أحمد
يجمع المخرج الألماني مارك فايسه في فيلمه الوثائقي الجديد "هذا البلد المسروق بلدي" بين جمالية الشكل وعمق المضمون ويعشقهما معًا بكمٍ كبير من المعلومات الدقيقة الصادمة التي لا تترك أي حجة أو ذريعة لمؤازري نظام الحكم الاستبدادي الإكوادوري الذي أوغل في القتل والجريمة والفساد، وفرّط بالموارد الاقتصادية للبلد، ورهن مستقبل الأجيال المقبلة باتفاقيات جائرة وديون ثقيلة تسدد على شكل نفط خام حتى عام 2024.
يركِّز المخرج على الحقبة التي أصبح فيها رافائيل كُوريّا رئيسًا للإكوادور عام 2007 حتى 2017 ثم يقدِّم لمحة بسيطة عن جانب من عهد الرئيس اللاحق لينين مورينو الذي استمر حتى عام 2021 وهو صورة مستنسخة لتوجهات كُوريّا السابقة في التبعية والتفريط بالموارد الاقتصادية.
يتسم هذا الفيلم الوثائقي بالبناء الدرامي الرصين الذي يجمع بين الواقعية والترميز من دون أن يضحّي بالاشتراطات التقليدية كالنَفَس الاستقصائي، والرؤوس المتكلمة، والتغطيات الخبرية، والاحتجاجات، والتظاهرات، وأعمال العنف المتبادل بين الناشطين وقوات الشرطة.
يمكن إيجاز ثيمة الفيلم بأنّ الغرب لم يعد يُقرض الإكوادور أموالاً منذ وصول رافائيل كُوريّا إلى سدة الحكم ونتيجة للضائقة المالية التي تعاني منها البلاد قرّر اللجوء إلى الصين وعقد معها سلسلة من الصفقات المشبوهة والعقود المُذلة التي تمنح التنيّن الصيني حق استخراج المعادن بمختلف أنواعها بما فيها الفضة والذهب واليورانيوم مقابل إنشاء الطرق، والمباني، والاتصالات، وشركات النفط، وتكنولوجيا المعلومات وغيرها من متطلبات العصر الحديث. وإذا كانت السلطة والأحزاب الفاسدة مستفيدة من هذه العقود والاتفاقيات فإن هناك شرائح كبيرة من الصحفيين والمثقفين وعامة الناس ترفضها جملة وتفصيلا لأنها تنهب ثروات البلاد نهبًا مُبرمجًا سوف يفضي، في خاتمة المطاف، إلى الفقر والبؤس والحرمان من ثروات البلاد ومواردها الطبيعية.
سننتقي من الرؤوس المتكلمة ثلاث شخصيات تفي بالغرض المطلوب، وأولها باوول خارين موسكيرا وهو ناشط بيئي يقف ضد العقود والاتفاقيات التي أبرمها الرئيس رافائيل كُوريّا مع الحكومة الصينية التي جرّدت الإكوادوريين من ثقافتهم وتقاليدهم الاجتماعية، وكلما ضاقت به السبل يلتجئ باوول إلى بحيرة Cajas التي يتحاور معها ويشكيها همومه، ثمة حوار مُسهب بعض الشيء مع أمه التي تمنّته أن يكون مختلفًا عن الآخرين ولكنه اشتطّ في الاختلاف وربما ذهب إلى أقصى مدى في الوطنية وحُب البلاد من أجل استعادة الأكوادور إلى أهلها وأصحابها الحقيقيين.
أما الشخصية الثانية فهو كريستيان زوريتا الذي سلّط الضوء على حكومة رافائيل كُوريّا التي يجب أن تدفع فوائد تتراوح بين7 إلى 8.25٪ عن المبالغ التي تلقتها الإكوادور وقيمتها 18.2 مليار دولار من حكومتي الصين وتايلند اللتين وافقتا على أن تكون نفطًا خامًا أو زيت وقود يبلغ حجمها 1.2 مليار برميل حتى عام 2024 كما أشرنا سلفًا. وهذا يعني أن رافائيل قد ركع على ركبتيه أمام التنين الصيني الذي يمكن أن يبتلع الإكوادور برمتها.
ربما يكون الشخصية الثالثة فرناندو بيابيسينسيو هو الدعامة الرئيسة التي يتكئ عليها الفيلم، فهو صحفي استقصائي بدأ العمل على كتابه المعنون (إكوادور صُنعت في الصين) عام 2012، كما نشر الكثير من المقالات والتقارير الصحفية وعندما علمت الحكومة بالكمّ الكبير من المعلومات التي تنطوي عليها كتاباته بدأت تشعر بالقلق والخشية من هذا الكاتب الذي يمتلك حسًا وطنيًا يمكّنه من تأجيج الشارع الإكوادوري فقررت الانتقام منه. وفي 26 ديسمبر 2013 داهمته قوة عسكرية أرعبت زوجته وأطفاله واتهمته باختراق حسابات وإيميلات القصر الرئاسي ونشر معلومات سريّة تابعة للحكومة الإكوادورية. كما قاضاه الرئيس كُوريّا للأسباب نفسها وترتّبت عن الدعوة تكاليف عالية بلغت 48.000 دولار أميركي، لكن فرناندو لا يمتلك هذا المبلغ الكبير وأكثر من ذلك فقد جرّدوه من حقوقه المدنية وكان عليه أن يبيع أثاث منزله بالكامل كي يسدد المبلغ المطلوب. وحينما تفاقم الموقف أخبره أحد الأصدقاء الذين يعملون في الاستخبارات بضرورة مغادرة البلد لأن حياته في خطر طالما أن رافائيل كُوريّا سيفوز في الانتخابات المقبلة.
يأخذ الفيلم منحىً آخر حينما يهرب فرناندو ويلتجئ عند السكان الأصليين في قرية من قرى الغابة المطيرة حيث قرّر أهل ساراياكو فتح بيوتهم له بعد أن عرفوا بتفاصيل قصته واضطهاد الجهات الرسمية له وترويعهم لأسرته ولم يكن أمامه سوى خيارين لا ثالث لهما، أمّا الموت أو الحرية. وبعد مسيرة أسبوعين على الأقدام في الغابة المطيرة وصل فرناندو إلى واشنطن وضمن حق اللجوء السياسي لكنه سرعان ما غيّر رأيه وقرر العودة إلى البلاد حيث استغربت صديقته الصحفية التي تعمل في جريدة الباييز واتهمته بالجنون لكنها نشرت خبر عودته نزولاً عند طلبه.
في عام 2017 يصل لينين مورينو، نائب الرئيس إلى كرسي الرئاسة عقب كُوريّا ليطرح سؤال الإدارة الداخلية من جديد وبما أنه ينتمي إلى الحزب اليساري نفسه الذي يدير البلد بالعقلية السابقة فلن يتبدل شيئًا في القريب بالعاجل حتى إن الرئيس الجديد مورينو قد قام بزيارة إلى الصين وكان في استقباله شي جينپينغ الذي وقّع معه العديد من العقود الجديدة التي ستكبل الشعب الإكوادوري فتحدث مواجهات عنيفة بين عناصر الشرطة والمنتفضين. يرفع الصحفي فرناندو قضية على الرئيس السابق كُوريّا وتصدر عليه المحكمة الاتحادية حكمًا بالسجن لمدة ثماني سنوات لكنه يرفض كل التهم الموجهة إليه وينتهي به المطاف لاجئًا في بلجيكا بينما يجد مؤازروه طريقهم إلى السجون الإكوادورية. كما أن المنتفضين يحققون أهدافهم بهزيمة الشركات الصينية في رينو بلانكو لكن لا تزال هناك المئات من مشاريع التعدين تعمل على قدم وساق في محيط مدينة آزوَي وغير ها من الأقاليم الإكوادورية. ومع أن معاناة الشعب الإكوادوري لم تنتهِ إلاّ أن بارقة الأمل تشي بالحرية والاستقلال والعيش الكريم وتمنع التنين الصيني الجبار من التهام الأيّل الإكوادوري الجميل.
يُنهي المخرج فيلمه بأغنية مُعبرة تقول كلماتها: "لقد حذّرناكم ألاّ تعودوا أبدًا / ننتظركم والأحجار بأيدينا / لقد أقسمنا أن نحبّ بعضنا بعضًا حتى الموت / من أجل زهرة اسمها الوطن".