المقاهي الثقافيَّة بين الأجيال

الصفحة الاخيرة 2022/07/22
...

 بغداد: نوارة محمد
 
أصبحت المقاهي الثقافية واجهة المُدن وربما الجُزء الذي لا يتجزأ من ثقافاتها، إذ بدت في الآونة الأخيرة ملجأً الشُبان لتجديد الأفكار وتداخل الثقافات والهويات. إنها العوالم التي أتاحت فرص التقارب الفكري وفتحت أبواب الاندماج بالشكل الذي يبدو فيه المبدع قريباً من قُرائه وجمهوره. إلا أن التساؤل الذي يراود الكثيرين هل تمارس هذه المؤسسات دورها بصقل هوية المدينة كما اعتادت عليه في السابق؟ 
ويرى الكاتب قيس حسن أن هناك تقاربا فكريا يربط الأجيال باهتمامات ذاتها، بل أصبحت طقساً يومياً لدى الكثيرين، لما تتحيه من فرصة لتداول الأحاديث عن الشأن العام والشأن الثقافي، فضلاً عن الشخصي، وأشد ما يثير فيها أنها أصبحت معلماً من معالم المكان أو المدينة، وهذا يشير لنجاح هذه الأمكنة ناحية الشهرة والحضور.  
لكن الكاتب والمخرج التلفزيوني علي السومري، يرى، أن المقاهي الثقافية كانت حلقة الوصل الأبرز بين المثقفين من مختلف الأجيال، وهو ما تؤكده كتابات أساتذتنا الكبار سواء في كتاباتهم الصحفية أو ضمن مشاريعهم السردية والشعرية، وهم يتحدثون عن بداياتهم الثقافية في مقاه كانت يرتادها كتّاب كبار، لاسيما أن الكثير من المشاريع الأدبية ولدت في هذه الأمكنة، على أريكات خشبية قديمة تحيطها غيوم من دخان السجائر والأراگيل، وسط ضجيج النقاشات المحتدمة التي تنافس أصوات النرد وقطع الدومينو. 
ويقول: المقارنة بين اليوم والأمس أظنها فقدت الكثير من تفصيلاته، لاسيما بعد دخول منافس شرس متمثلا بمواقع التواصل الاجتماعي، هذا العالم الذي أصبح اليوم مقهى عالمياً بإمكانك فيه مجالسة أفضل الكتّاب ومن مختلف الأجيال. ويضيف: المقارنة بين المقهى كمكان جغرافي، ومواقع التواصل الاجتماعي، تذكرني بالمقارنة بين الكتاب الورقي والكتاب الالكتروني، فمثلما للكتاب الورقي سحره الخاص وطقوس قراءة خاصة، للمقهى أيضاً هذا الامتياز، ونحن بالعادة كائنات طقوسية، نشعر بالانتماء الى الواقع لا الافتراض!
إلا أن الكاتب والشاعر علي وجيه يرى أن المقاهي الثقافية وأجيالها يدوران حول المدينة، تتبدل الأفكار وتتغير أجيالها، لكن دورها في أدلجة الثقافات مستمرا عِبر تأريخها.  ويقول إن: المقهى "والحانة في أجيال سابقة"، هي نسق ثقافيّ ثابت في جميع سرديات الأجيال العراقية، منذ مقهى حسن عجمي التي ارتادها الجواهري، مروراً بـ "البرازيلية" و"المعقدين"، وسواها من مقاهٍ ثقافية، كما يقول إن الذاكرة الثقافية العراقية تحتفظ بمقاه مؤثرة، ذلك أنها كانت المكان الذي يجمع الجيل، نقاشاته، آراءه، والمقاهي كانت مركزية في حيواتهم، ونصوصهم، وصولاً لجيلنا الثقافي بعد 2003، فكما استمر حسن عجمي "شارع الرشيد" مركزاً للأجيال السبعينية والثمانينية، كان مركزيا إضافيا لمقهى "الجماهير" في الباب المعظم للجيل التسعيني، ولأن تلك المناطق بلا ليل، اعتاض جيلنا بمقاهي الكرادة: أبو حالوب، رضا علوان، قهوة وكتاب، على تلك.
الآن المقهى لم يعد مرجلاً للنقاشات، وطريقة تفكير الجماعات الثقافية المتسعة، هو مكان اجتماعي، ومع تعدد مصادر المعرفة والتفكير، تراجعت فكرتا المقهى والجيل في الوقت نفسه، لكنه يبقى المكان الأساسي لمعرفة لغة المدينة السرية، الخافتة، وتحولت من صنع وجهة النظر الثقافية، إلى فضاء يصنع الرأي الاحتجاجي السياسي، وإدامة مظاهر التمدن، وفق تعبيره.