{الظهر إلى الجدار}.. البحث عن المجهول في عبث الحروب

الصفحة الاخيرة 2022/07/25
...

  علي العقباني*
 
"الظهر إلى الجدار" العمل الروائي الطويل الأول لمخرجه أوس محمد والذي سبق له أن عرض في مهرجاني الرباط لسينما المؤلف والإسكندرية السينمائي، ونال بطله أحمد الأحمد جائزة التمثيل فيه، وبدأت عروضه الجماهيرية في دمشق والعديد من المحافظات السورية.
ربما تعني عبارة "الظهر إلى الجدار" أن تجعل نفسك محمياً من الخلف، وربما تعني العبارة أيضاً في زمن الحروب أن تكون هدفاً للموت إعداماً بالرصاص، وربما إنك والجدار خلفك فأنت في مأمن من الطعنات التي قد تأتيك دون أن تراها، وفي زمن الحرب والعبث والموت إن فعلت فالموت أو الجنون مصيرك.
شتاء عام 2013، كما يرد في أسفل الشاشة، جنديان سوريان ربما من حرس الحدود في البادية السورية، يُفاجآن وهما يرتبان عدتهما العسكرية ويتبادلان الحديث الساخر والمضحك، بأحد ما قادم من بعيد وسط كثبان ترابية معزولة، بدا الرجل خائر القوى يمشي بتمايل ثقيل نحو الجنديين شبه الوحيدين في قلب الصحراء، يلمحانه فيقومان بتوجيه السلاح نحوه ويتجهان إليه، بهذا المشهد يبدأ فيلم "الظهر إلى الجدار" لمخرجه أوس محمد قبل أن تظهر تيتراته، ويأخذنا بعدها إلى العام 2019، حيث مدرج في إحدى الجامعات السورية لأستاذ يحاضر في الإعلام الاستقصائي، الدكتور قصي" أحمد الأحمد " نراه وهو يستعرض لطلابه حالة مجرم، يستجوبه، ويعترف بجرائمه، دون الاهتمام بالمشاعر والنتائج، فقط هو هنا يعرض الحالة، التحول يأتي عند دخول أحدهم ونعرف فيما بعد أنه طبيب نفسي "علي الصطوف" يُطلع قصي على صورة مذكور خلفها اسمه، ويعلمه بوجود صديقه في مشفى للأمراض العقلية وهو بحالة صعبة ومعقدة.
هنا تبدأ رحلة الفيلم في البحث والاكتشاف والتقصي والغوص في مسارات الشخصيات وتتبع مصائرها وحياتها، تلك الرحلة يباشرها قصي، بعد تردد وتمنع، لعله يجد إجابة شافية لما حدث مع صديق طفولته وصباه، رحلة فيها الكثير من الإثارة من خلال كشف سر ما حدث وتأثيرات الحرب على مصائر وحياة الشخصيات في أماكن متعددة من سوريا، ثمة جريمة أو جرائم حصلت، قصص إنسانية لاقت مصيراً مفجعاً، تلك هي الحرب وتلك بعض قصصها وتفاصيلها التي لم نكتشف منها سوى اليسير اليسير مما حدث من أهوال وفظاعات.
قصي أستاذ جامعي جاد، متحفظ، كلاسيكي، منطوٍ، غامض، مثير للأسئلة في علاقاته،  بينما صديقته ريما (لين غرة) فنانة تشكيلية، عصرية، منطلقة، جريئة، مستقلة، تعيش حياتها الصاخبة وسط أصدقائها ومنحوتاتها، وصديقها الدكتور الجامعي، الأستاذ الباحث عن الأزمات التي يعيشها الإعلام السوري، من خلال محاضراته يجد نفسه مُضطراً وسط مجموعة من الأحداث خلال رحلته للبحث عن خيوط قضية تمسُّه شخصياً، ولها علاقة بصديق طفولته ليث خليل "عبد المنعم عمايري"، حينما أخبره الطبيب النفسي زاهر عبد الحميد "علي الصطوف" أنه نزيل مشفى الأمراض العقلية يرفض شخصيته الحقيقية، وينتحل شخصية الشاعر السوري المعروف محمد الماغوط.
رويداً رويداً تتصاعد أحداث الفيلم خلال رحلة قصي في البحث عما حدث لصديقه، وتبدأ بظهور شخصيات أخرى مرتبطة بمجرى الأحداث، فنجد صديقه ضابط الأمن(الفرزدق ديوب)  والذي يجلس معه في المقهى ويذهب برفقته إلى أماكن عسكرية في البادية وغيرها، ويساعده في اكتشاف سر غياب ليث ووجوده في الصحراء، وهناك "أم جورج" (فيلدا سمور)، الجارة القديمة من حي التجارة، ومختار عدرا (فايز قزق)، أو الجار الفزِع والخائف والمتوتر(أكثم حمادة) بعد المجزرة التي ارتكبتها الجماعات المسلحة في منطقته عدرا عام 2013، وهنا نبدأ بالتعرف على شخصية الرجل في المشفى والذي يقتل الإرهابيون عائلته بأكملها أمام عينيه، ويحاولون قتله قبل أن يهرب إلى جهة لا أحد يعلم أين هي، هذه المسارات التي تستكشف المشهد السوري في عمقه الإنساني وتحول حيوات الناس داخل بنى المجتمع المتعددة، ومسارات العنف والحرب الحاضرة الغائبة في كل تفصيل هنا.
هذا السياق الحكائي للفيلم على قدر أهميته لا يمكن التعامل معه نقدياً دون العبور نحو مسارات بنية السرد والصورة والأداء والتصوير واستخدام العدسات والإضاءة والحركة وغيرها ضمن عملية بناء الفيلم السينمائي، فالمؤلف الذي هو المخرج هنا يحاول الكشف عن قصته بالتدريج ضمن سياقات وأحداث متوازية واستعاذات ماضوية أحياناً أخرى، مستخدماً كاميرا قلقة بلقطات ضيقة أحياناً وواسعة في أحيان أخرى ذات بعد بؤري عميق، الأمر الذي يجعلك قلقاً ومتوتراً طيلة الوقت، مستخدماً لونيات باهتة غير مشرقة حتى في اللقطات الخارجية، مائلة إلى البني وفي الداخل تميل إلى الأزرق، وهنا يبدو تأثر أوس محمد من حيث الصورة وحركة الكاميرا وبناء المشهد بالسينما السوفيتية مستوعباً طريقة تعاملها مع هذا النوع من الأفلام والأحداث من خلال واقعية مفرطة في حين وأحياناً في سبر أعماق شخصيات وذوات إنسانية مرت بتجارب إنسانية قاسية ومؤثرة، وهي السينما التي قدمت مئات الأفلام عن الحرب وقصصها". 
يبدو العالمان الداخلي في مشفى الأمراض العقلية والخارجي بكل مستوياته شبيهين في المحتوى والسلوك والنهايات، وإذ كان المجنون من قتل أهله أمامه في مجزرة دموية والمتشبه في شخصية الشاعر محمد الماغوط وهو يردد أشعاره وأقواله، يموت على يد أحد زملائه في المشفى بأن يرديه قتيلاً بتمثال نصفي للماغوط أحضره صديقه قصي ونحتته صديقته، دم يتطاير في كل مكان ونهاية عبثية تشبه ما حصل لأسرته وربما لوطنه.
أما أوس محمد فقد درس الإخراج في أوكرانيا، وأنجز العديد من الأفلام الروائية القصيرة منها "سراب" (2016)، "يوم من 365 يوماً" (2017)، "88 خطوة" (2018)، والوثائقي "معلولا.. قصة الحجر الحي" (2012)، وفيلمه "الظهر إلى الجدار" أولى تجاربه في الأفلام الروائية الطويلة وهو من إنتاج "المؤسسة العامة للسينما" في سوريا
 
*ناقد ومخرج سينمائي سوري