أيام القدّاح

الصفحة الاخيرة 2022/07/25
...

 ميادة سامي

لم تكن طفولتي سلسة ربما بسبب الحرب التي جاءت إلينا مسرعة، لتدق أبوابنا بأعنف الطرق، كنت فتاة عنيدة أمتلك خيالا واسعا لم أوظفه لصالحي، بل لم يأبه أحد لي، التفوق قبل كل شيء رغم القصف المدفعي الشديد في مدينة البصرة، نلوذ بأجسادنا هنا وهناك ولا أحد يستطيع سماع الصرخات التي تملأ المحيطات القابعة بأعماق الروح، ورغم ذلك لم تمنع الحرب ممارستنا لألعابنا الشعبية الجميلة، وقد كانت متعددة ومنها بيت بيوت والتي وجدت فيها ضالتي فقد كنت ارسم الشخوص وأوزع الأدوار بين أخواتي ومن تشاركنا اللعب من القريبات، نخوض المغامرات ونقطع البحار على ظهر السفينة (أحد الأسِرة الخشبية )، وصل الامر بي الى القفز في الماء وقتل القروش هكذا بدأ الامر وراح يتبلور.
وفي ظهيرة احد الايام التموزية حيث الحر شديد وبعد أن عاد أبي  من العمل، ودخل حجرته لأخذ قيلولة خطرت في بالي فكرة مجنونة، وهي أن ارسم لوحة ما لشقيقتي غادة قلت لها هذه اللوحة لك، اخذت ألوان الباستيل الشمعية ورحت ارسم دون هدف على الحائط الابيض المصقول جيدا، والذي يعود لمنزل حكومي لم يمض على انتقالنا اليه سوى بضعة اشهر، حيث انتقل عمل ابي الى مدينة السماوة مما حدا بنا الى اللحاق به، لم أفلت من العقاب الذي تلقيته جراء فعلتي  تلك، غير أن تساؤلا بسيطا ما زال يتكرر في نفسي، فلو أن أبي لم يغضب ونظر إلى الجانب الفني من الامر لأبصر لوحة تجريدية فريدة من نوعها، حولت الحائط الابيض إلى معركة لونية مقاربة لطولي الذي كان لا بأس به.
في تلك المرحة من حياتي صدف إن كان هناك مسرحا في مدرستنا الابتدائية، وقد انتقت معلمة الفنية الست روناك عددا من الطالبات لتأدية أدوار مختلفة في مسرحية اسمها "النهر والبستان" كانت تتحدث عن الصراع بين النهر والبستان من أجل الحصول على المياه، وهي أساس كل شيء حي، وكان دوري آنذاك دور وردة حمراء شاركت تلك المسرحية في مهرجان أجري في مدينة الديوانية القريبة نوعا ما من السماوة، أذكر كيف كانت مشاركتنا آنذاك، حيث الكثير من الفرق المسرحية  والكثير من الطلبة والطالبات، قامت الست روناك بوضع مساحيق التجميل على وجوهنا وبعد انتهاء المهرجان ضاعت نقودي او ربما سرقت، ورحت ابكي طوال طريق العودة خوفا من أبي، والذي قام بمواساتي وهو يحاول جاهدا كتم ضحكاته، فقد امتزج الكحل  بدموعي وخرب معالم وجهي.
أبي كان غارقا قي كتبه والتي ما لبثت إن وقعت بين أيدينا، حين بدأ عودنا ينضج أذكر في بداية العطلة الصيفية، وقد كنت في سن الخامسة عشرة قرأت رواية البؤساء كاملة وأعدت قراءتها مرة أخرى لشدة انبهاري بها، مرت السنون ودونت مذكراتي عن حرب الخليج باسم (يوميات فتاة في حرب الثلاثين دولة).
تناولت بعض المغامرات والمفارقات التي حدثت إبان تلك الحرب كنت حينها قد التحقت بجامعة البصرة كلية العلوم، ولَم أصدق ان الحرب ستندلع، صوت مدوٍ لمئات، بل آلاف الطائرات المستعدة لنشر الموت والفوضى نبتلع خوفنا مع كل سرب طائرات يمر فوق سمائنا، التي باتت مظلمة بفعل احتراق آبار النفط ولَم يتبق لنا سوى خيط أمل رفيع تركته الشمس وغابت ثم عادت لتشرق من جديد، فشمسنا رغم أنها حارقة الا أنها تبعث الحياة فينا في كل مرة.
روائية