ليس من الصعب إدراك حقيقة الاستحضار الثابت لرجال العصابات في الأدب القصصي. فمن المفهوم الرومانسي للبطل المضاد antihero الخارج على القانون إلى كاريكاتير رئيس العصابة الذُّهاني، جرى تصوير هؤلاء في أضواء مختلفة كثيرة؛ غير أن الثيمة الموحّدة لهم هي أنّهم يعيشون وفق مجموعة من القواعد الغريبة عن عامة الناس المعتادين على القانون، وهو ما يجعلهم يتّسمون بالتشويق والإثارة. فنحن نريد أن نعرف ما الذي يجعل منهم شيئاً يستدعي الانتباه، وأن نفهم عالمهم، ونرى فيه كل واقعه الدموي. وذلك جوهر ما يصنع عملاً أدبياً أو فنياً مثيراً: يرينا الوجود العنيف ونحن في أمان مقعدنا المريح.
ولم أفكر في أن أُبدأ بالكتابة عن رجال العصابات أبداً. كانت روايتي الأولى، (الداخل المعتم The Dark Inside )، تستند على “اغتيالات ضوء القمر في تيكساركانا”، وهي قضية قتل متسلسل في عام 1946. وقد شهدت تتمة الرواية، (هبوط ليلٍ أسود)، بطلي القصصي، تشارلي يَيتس، مسحوباً للوراء إلى تيكساركانا، بلدة هوت سبرنغس Hot Springs ــ وهي بلدة عصابة إجرامية حقيقية في الأربعينيات ازدهرت فيها الدعارة والمقامرة غير القانونية. وقد اكتشفتُ، في بحثي المتعلق بتأليف الكتاب، أن بينجامين “بَغسي Bugsy” سيجِل (رجل العصابات الشهير) كان زائراً منتظماً آنذاك لبلدة هوت سبرنغس. ولكونه قد غدا واحداً من أشهر رجال العصابات في التاريخ على تلك الصلة القريبة بقصتي فإنها كانت فرصة طيبة جداً لأن يحتل مسرحاً مركزياً في تلك القصة، وكذلك في روايتي الجديدة (سماء الصحراء الباردة).
أما روايات رجال العصابات التي قرأتها على مر السنين، فتتصدرها بطبيعة الحال (العرّاب The Godfather) لماريو بوزو. ويُعد تكييف المخرج فرانسيس فورد كوبولا لهذه الرواية إلى السينما واحداً من أعظم التكييفات على الإطلاق، إلا أن الكتاب عمل كلاسيكي بحكم تكوينه الأدبي. وقد أدخل مصطلحات مثل كوسا نوسترا وأوميرتا omertà لجمهور المشاهدين وحدَّد الإدراك الحسّي العام في ما يتعلق بأفراد العصابات لعقود مقبلة.
وكان فيلم “الجِّدعان”Goodfellas، وهو من تكييف مارتن سكورسيس لرواية فرانسيس بيليغي، (الفتى الحكيم Wiseguy)، التي تدور حول حياة رجل العصابات هنري هِل، نقطة الانطلاق للتصوير الحديث لرجل العصابة الإجرامية. وقد شكّل الكتاب قالباً لكل ما تلا ذلك من أعمال ــ من كازينو ودوني براسكو حتى السوبرانو Sopranos.
أما (التابلويد الأميركي American Tabloid ) فتحفة يكرّسها مؤلفها جيمس أيلروي لـ “الرجال السيّئين، والثمن الذي يدفعونه لتحديد طبيعة وقتهم على نحوٍ سرّي”. ويأخذنا أيلروي في روايته، التي تغطي الفترة الممتدة من انتخاب الرئيس الأميركي جون كندي إلى اغتياله، داخل عالم قطّاع الطرق، والسماسرة، والقتلة على هوامش السلطة. وما يزال يُذهلني أن يكون أقرب شيء للبطل، وعلى مدى 600 صفحة، قاتل مرتزق قام حسب تقديره هو بقتل أكثر من 500 شخص.
وقد اتُّهمت الرواية بتمجيد المجرمين، لكني أفضّل توضيح مؤلفها: أنها قصة ثلاثة رجال سحقهم ثقل شرهم الشخصي.
وتؤرّخ رواية دون ونسلو، (سلطة الكلب The Power of the Dog)، للسنوات الثلاثين الأولى من “الحرب على المخدرات” في الولايات المتحدة. ويعرّي الكتاب، وهو ملحمة بكل ما للكلمة من معنى، العنف، والتفاهة، ونفاق السياسة، ويستمد مضمونه المدهش تقريباً من قيامه على أحداث حقيقية. لكنه أكثر بكثير من كونه عرضاً قصصياً لتاريخ حديث؛ فهنا، وكما هي الحال في (العرّاب)، تكون العلاقات الشخصية هي التي تحرك السرد.
بينما نجد جيمس لي بورك يندفع في روايته الأولى (مطر النيون The Neon Rain)، من سلسلة روبيتشو، ضد رئيس الجريمة في نيو أورليانز، “ديدي جي” جايكانو. وقد انتهى الأمر بجايكانو هذا في الآخر، وكان في البدء مرهوب الجانب متسلطاً حيثما كان، إلى الوقوع في جملة من المشاكل: فالقانون يضيّق عليه، والكارتلات تنتقل إلى حلبته، وصحته تتدهور. وغدا مدار قصته يرمز لانهيار هيمنة العالم السفلي للمافيا وتراجعها أمام قادمين جدد يتميزون بقواعد مختلفة.
وتمثّل (عش ليلاً Night Live By) لدينيس لَيهين Lehane، الجانب الآخر من العملة: إذ ترسم رواية ليهين الكاسحة خارطةً لصعود جو كولين من شوارع بوستن إلى رئيس عصابة فلوريدا. وتتضح شجاعة ليهين ككاتب هنا مرة أخرى ــ ليس فقط في ما هناك من تغيير في الفترة والمحيط عما كان عليه الأمر في أعماله السابقة، بل وفي الطموح الذي يتّسم به نطاق الرواية. وبدورها كملحمة عصاباتية صارمة، وحكاية تحذيرية في ما يتعلق بثمن النجاح، فإنها في جوهرها قصة حب وخسارة ــ وقصة تبدو مؤلفةً لتوفير نهاية سعيدة على نحوٍ حتمي، بأسلوبٍ ليس بوسع أحدٍ إنجازه سوى ليهين.
عن/ The guardian
* كاتب إنكليزي يعيش في لندن، وله عدة روايات أحدثها (الداخل المعتم The Dark Inside).