الولايات المتحدة وإيران على مسار تفاهم نووي جديد

قضايا عربية ودولية 2023/01/11
...

• جيوفري آرونسون

 ترجمة: أنيس الصفار 


لم يكشف صوت الرئيس "جو بايدن" سراً حين تسرب خلسة إلى مايكروفون مفتوح معلقاً بأن جهود إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة قد "لفظت آخر انفاسها". فمنذ انطلاق المسعى الدبلوماسي في العام 2015 لاحتواء برنامج إيران النووي، "واحتجازه في صندوق"، تغير كل شيء نحو الأسوأ. فطهران اليوم قادرة في أقل من أسبوع على انتاج كمية من اليورانيوم المخصب بمستوى التسلح تكفي لصنع قنبلة نووية.


البحث الآن جار عن صيغة جديدة لنزع فتيل الأزمة الراهنة، ففي شهر تشرين الثاني اقترح الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" أن الحاجة قد تقتضي وضع "إطار عمل جديد".

ثمة سبب وجيه لعدم الاستسلام لليأس أو التخوف من حدوث اختراق نووي إيراني صريح في أعقاب انطفاء خطة العمل الشاملة المشتركة، إذ أن هنالك بالفعل إطار عمل جديد آخذ بالتشكّل.

حين ابتدأ العمل بخطة العمل الشاملة المشتركة كان ذلك على فرض موافقة إيران على سلسلة من الإجراءات التداخلية كثير منها لم يسبق أن شوهد له مثيل. هذه الإجراءات كانت ستقلص فترة الانفلات النووي بالنسبة لإيران إلى عام واحد عن طريق وضع عوائق حقيقية أمام برنامجها لتخصيب اليورانيوم إلى المستوى الذي يتطلبه تطوير سلاح نووي. مقابل ذلك تعمل الولايات المتحدة على رفع الحظر عن الاستثمارات الغربية في السوق الإيرانية.

كانت إيران دائماً ترى في هذا الاتفاق صفقة مجحفة وقسرية بحقها تلوح من ورائها مساعي واشنطن المستمرة لتقويض ثورة 1979 الإيرانية. أما واشنطن فقد أثبتت عدم رغبتها، رغم اتفاقية 2015، في التخلي عن استخدام العقوبات الاقتصادية المستمرة في التصاعد وإبقائها محوراً أساسياً في صميم سياسة "الضغط الأقصى" مع طهران.

بعد ذلك جاء رفض إدارة ترامب للاتفاقية فحقق الانهيار الكامل لهذا المشروع الذي أخفقت إدارة بايدن في انتشاله وإسعافه.

بيد أن ثمة مبرراً للاعتقاد بأن فشل خطة العمل الشاملة المشتركة قد أوجد فرصة لبناء تفاهم بين واشنطن وطهران لمرحلة ما بعد الخطة القديمة، وقد تثبت الأحداث أن هذا التفاهم أبقى وأكثر فعالية من خطة العمل الشاملة المحتضرة في تهدئة مخاوف واشنطن (أو بالأحرى مخاوف إسرائيل). 

حجر الزاوية في هذه المرحلة الجديدة من الدبلوماسية النووية الأميركية الإيرانية يتمثل بالتبنّي المتبادل لمفهوم الغموض النووي.

هذا التطور الحذر في العلاقات الأميركية الإيرانية يرتكز على المصلحة الإيرانية والأميركية المشتركة في إبقاء قدر مدروس من عدم اليقين بشأن قدرات أسلحة إيران النووية والتقيد به، بيد أن ذلك يتعارض بشكل مباشر مع الأهداف الرئيسة في صميم خطة العمل الشاملة المشتركة المتمثلة بالإجهاض الاستباقي والحيلولة دون توسع قدرات التخصيب النووي لدى إيران وفرض رقابة صارمة عليها. 

تحتل عقيدة الغموض النووي موقعاً مركزياً في الدبلوماسية النووية. فالعقيدتان الأميركية والروسية قائمتان على أساس الإعلان الصريح عن القدرات النووية المعزز بالوعد وبترسانتي الدمار النووي المتبادل المتقابلتين. كوريا الشمالية هي الأخرى تحتفظ بترسانة نووية معلنة مع أنظمة إطلاقها بهدف ردع أي تدخل أجنبي وإبقاء النظام الحاكم في السلطة.

مقارنة بذلك يتجاهل أسلوب الغموض النووي، على النحو الذي تمارسه إسرائيل ومن بعدها إيران الآن بشكل متزايد، مسألة تخصيب اليورانيوم التي كانت في صميم فترة خطة العمل الشاملة المشتركة. بدلاً من ذلك يركز هذا الأسلوب على اتخاذ قرار يتعمد عدم الإعلان عن امتلاك القدرة على التسلح النووي، سواء بصفة سلاح أو كوسيلة ردع. سياسة عدم اليقين المتعمدة هذه بخصوص قدرات إيران على التسلح نووياً مجدية في نزع فتيل الضغط غير المرغوب فيه الذي يسلطه المجتمع الدولي لنزع السلاح، في حين أن إدراج الأسلحة النووية ضمن العقيدة العسكرية بشكل معلن من شأنه الدفع إلى المواجهة المسلحة بدلاً من درئها.

ظهرت معالم هذه التسوية الكبرى بين طهران وواشنطن أول مرة في الصيف الماضي، ولم يكن من المفاجئ أن يأتي الإعلان عن عناصرها الأساسية في سياق الحديث عن التزامات الولايات المتحدة تجاه إسرائيل.

ففي 14 تموز 2022 تم الإفصاح عن "إعلان الشراكة الستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل" الذي يعيد تأكيد التزام الولايات المتحدة الدائم والراسخ بأمن إسرائيل، وخصوصاً المحافظة على تفوّقها التسليحي النوعي. فطالما كفلت واشنطن تفوق إسرائيل على إيران وبقية جيرانها في مجال الأسلحة التقليدية سوف تبقي هذه ترسانتها النووية التي ذاع صيتها "في القبو"، بكلمة أخرى إنها ستبقى طي الغموض غير معلن عنها ولن تنشر.

ما من جديد في ذلك كله. لكن إعلان الشراكة المشار إليه، الذي يضع نصب العين السياسة الجديدة تجاه إيران في مرحلة ما بعد خطة العمل الشاملة المشتركة، يجهر بالتزام معلن وصريح إلى درجة غير اعتيادية، ولعله غير مسبوق من قبل، بأن "تستخدم الولايات المتحدة كافة عناصر قوتها القومية" لضمان "عدم اكتساب إيران سلاحاً نووياً".

من المفيد الانتباه جيداً هنا إلى الصياغة اللغوية غير الاعتيادية التي تستخدمها الآن إدارة بايدن في وصف سياسة الولايات المتحدة هذه. فالاتفاق بين الولايات المتحدة وإسرائيل، الذي أعاد ترديده فيما بعد مسؤولو الإدارة في محافل ومناسبات مختلفة، لا يحذر إيران من تخصيب اليورانيوم تحديداً ولكنه ينصحها باتقاء خطر عواقب لم يسبق لها مثيل (من خلال استعمال عبارة "كافة عناصر القوة القومية الأميركية") إذا ما اختارت التوجه نحو انتاج القنبلة النووية. التمييز في العبارة هنا شديد الأهمية لأنه يكاد يدعو إيران بشكل صريح إلى تبني سياسة الغموض النووي طالما بقيت دون حد حيازة السلاح ونشره كي تتجنب التعرض لهجوم أميركي وقائي او إجهاضي (قد يكون حتى نووياً).

يبدو أن إيران قد استوعبت بواطن الخط الجديد الذي تضمنه خطاب واشنطن المعلن. ففي أعقاب الإعلان الأميركي تحدث كمال خرازي، رئيس المجلس الستراتيجي الإيراني للعلاقات الخارجية وأحد كبار مساعدي المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، فأيد أن لدى إيران بالفعل القدرة على انتاج سلاح نووي، ولكنها تختار عدم فعل ذلك – وهذه هي عين الصيغة الكامنة في قلب سياسة الغموض النووي. قال خرازي في حديث مع قناة الجزيرة العربية: "نحن قادرون في غضون أيام قليلة على تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 60بالمئة وقادرون بسهولة على انتاج يورانيوم مخصب بنسبة 90بالمئة. إيران لديها الوسائل التقنية التي تمكِّنها من انتاج قنبلة نووية لكن القرار لم يتخذ بصنع 

القنبلة. "

كذلك ورد في تصريح لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللاهيان أن نافذة التوصل إلى اتفاق من جانب جمهورية إيران الإسلامية لن تبقى مفتوحة إلى الأبد. ثم تابع قائلاً: "إذا كان الغربيون يريدون الاستمرار في سلوكهم المنافق والمتدخل فسوف نتحرك باتجاه خطة أخرى. "

الخطة الأخرى – وهي إطار عمل ماكرون الجديد – يمكن أن تكون قائمة على سياسة الغموض الستراتيجي.

العهد النووي الجديد الآخذ بالبزوغ بين واشنطن وطهران (وليس بالضرورة مع إسرائيل أيضاً) يتخلى عن مفهومين كانا في قلب خطة العمل الشاملة المشتركة المحتضرة، ففي قلب عهد الاستقرار الستراتيجي المطروح بتردد وحذر بين واشنطن وطهران الآن سيكون الغموض بديلاً للوضوح والنوايا بديلاً للقدرات. لكن على عكس العلاقات الوردية بين واشنطن وإسرائيل عقب تفاهماتهما النووية في أواخر الستينات من القرن الماضي سيقدر للعلاقات بين إيران وواشنطن البقاء في حالة جمود عميق في أعقاب هذا التصالح النووي الآخذ بالبروز.


• عن مجلة "ذي ناشنال إنتريست"