روبن مكاي
ترجمة: بهاء سلمان
إنَّه النبات الذي غيّر سير الإنسانيَّة، فبفضل زراعة القمح، تمكّن الجنس البشري الحديث من إطعام نفسه مع تزايد الأعداد بشكلٍ متواصل، محوّلاً مجاميع جامعي الصيد المكافحين للبقاء على قيد الحياة ضمن عالمٍ عدائي إلى الجهة المتحكّمة بكوكب الأرض.
أثناء عمليَّة تطوّر المحصول، صار نوعاً من عشبٍ بري، اقتصر تواجده في ما مضى على منطقة صغيرة من منطقة الشرق الأوسط، يغطي حالياً مساحات شاسعة من كوكب الأرض. وكما ينوّه المؤرخ "يوفال نوح هاراري": "في السهول الهائلة لشمال أميركا، حيث لم تنم ولا حتى ساقٌ واحدة لنبات القمح منذ عشرة آلاف سنة، بإمكان الواحد منا اليوم السير لمسافة تتعدى مئات الكيلومترات من دون أنْ يرى نباتاً آخر على مد الأفق".
ويزوّد القمح الآن ما نسبته عشرين بالمئة من السعرات الحراريَّة المستهلكة من قبل البشر كل يوم، بيد أنَّ إنتاجه صار موضع تهديد. وبسبب ظاهرة الاحترار العالمي بشريَّة الإنتاج، يواجه كوكبنا مستقبلاً تشوبه عدة موجات قاسية الحرارة وحالات جفاف وحرائق غابات من التي ممكن أنْ تعمل على تدمير المحاصيل الزراعيَّة مستقبلاً، مشعلة شرارة مجاعة واسعة الانتشار لاحقاً.غير أنه من الممكن تجنّب هذه الأزمة بفضل بحث مميّز يتمُّ إجراؤه حالياً من قبل باحثين يعملون لدى مركز جون إنز بمدينة نورويتش الانكليزيَّة، فهم يواصلون العمل على مشروعٍ لجعل نوع القمح أكثر مقاومة للحرارة والجفاف. لكنْ من المقرر وضع وجبة جديدة من التجارب موضع التنفيذ خلال أسابيع قليلة كجزءٍ من مشروعٍ سيشهد زراعة أنواعٍ مختلفة من القمح، بواسطة تقنيَّة تنقيح الجينات، ضمن حقولٍ مخصصة للتجارب في إسبانيا.
وستعمل قدرة هذه الأنواع على تحمّل حرارة منطقة شبه جزيرة ايبيريا (تتكون من اسبانيا والبرتغال واندورا وجبل طارق/ ويكيبيديا – المترجم) على تحديد جودة المحصول ليتسنى للعلماء امتلاك إمكانيَّة حماية الحقول الصالحة للزراعة من التقلبات الأسوأ لتغيّرات المناخ، وبالتالي تعزيز إنتاج الغذاء لمليارات البشر، بحسب قول فريق معهد جون انز.
تجربة واعدة
لم يكن القمح هو العامل النباتي الوحيد المغذي للثورة الزراعيَّة، فهناك مواد غذائيَّة أساسيَّة أخرى، مثل الرز والبطاطا، لعبت دوراً كذلك. بيد أنَّ القمح اكتسب الدور القيادي في تحفيز الثورة الزراعيَّة التي أوجدت العالم الحديث بـ"انفجاره السكاني ونخبه المدللة"، وفقاً لما كتب هراري في كتابه "سابينس"، الذي حقق مبيعات هائلة عالمياً.
وتتمُّ زراعة نوعين رئيسين في الحقول: قمح المعكرونة وقمح الخبز. ويلعب كلا النوعين دوراً بالغ الأهميَّة في الأنظمة الغذائيَّة لأربعة مليارات ونصف المليار إنسان، كما يقول البروفيسور "غراهام مور"، المتخصص بعلم وراثة القمح ومدير مركز جون انز، أحد أكثر المراكز العالميَّة الرائدة ببحوث المحاصيل الزراعيَّة، ويضيف: "من بين تلك الأعداد، يوجد ملياران ونصف المليار إنسان في 89 دولة يعتمدون على القمح لطعامهم اليومي، بالتالي بمقدورنا معرفة عمق أهميَّة هذا المحصول الحيوي للعالم بأسره".
المشكلة التي واجهها علماء المحاصيل الزراعيَّة، والذين يسعون لتحسين مرونة وانتاجيَّة أنواع القمح، كانت في تعقيد الجينات القمحيَّة، بحسب مور، ويضيف: "لدى الكائن البشري شريط وراثي مفرد (جينوم) يحتوي على تعليمات الحمض النووي الخاص بكل فرد؛ لكن قمح المعكرونة لديه جينومان أجداد مختلفان، بينما لدى قمح الخبز ثلاثة جينومات أجداد".
أوجد هذا التعقيد نتائج غاية في الأهميَّة، فلأجل السيطرة على جيناتها وكروموسوماتها المختلفة، اكتسب القمح جيناً مستقراً، من الذي يعمل على فصل الكروموسومات المختلفة ضمن جينوماتها المتعددة. ضمن هذا الأمر امتلاك هذه الأشكال من القمح لغلّة إنتاجيَّة عالية. ومع ذلك، يعمل الجين أيضاً على كبح أي تبادل للكروموسومات مع الأنساب الجامحة للقمح، محبطاً جهود علماء الوراثة الساعية إلى إيجاد أصنافٍ جديدة ذات خصائص نافعة.
توظيف الميزات النافعة
يقول مور: "لدى الأنساب البريَّة مميزات نافعة حقاً، من مقاومة الأمراض واحتمال الملح والحماية من الحرارة، وهي ميزات يرغب العلماء بإضافتها لإيجاد قمحٍ أقوى وسهل الزراعة في الظروف القاسية. لكنْ لم يكن بالإمكان فعل ذلك؛ لأنَّ هذا الجين أوقف هذه الميزات عن حالة الاندماج. كان هذا الجين يعرف بـ"الكأس المقدسة" بالنسبة لعلماء وراثة القمح، فبرغم أهميَّة القمح الحيويَّة لإطعام العالم، فقد أثبت كونه أصعب محصول تجرى عليه البحوث بين جميع المحاصيل الرئيسة بسبب تعقيده وحجم جينومه. لذلك، أهميَّة البحث الخاص بإيجاد الجين كان هو السبب لهذه المشكلة".
تطلب الأمر عدة عقود، لكنَّ علماء مركز (جون انز) قد تمكنوا حالياً من النجاح في سعيهم وراء الكأس المقدسة، فقد حددوا الجين الرئيس، ووضعوا له رمزاً معيناً، وأوجدوا نسخة متحوّلة منه، نسخة تمكّن الجين من تنفيذ مهمته الرئيسة، وهي السماح لكروموسومات القمح بالاجتماع أزواجاً بشكلٍ صحيحٍ وتحقيق إنتاجيَّة جيّدة، إلا أنها تفتقر إلى قدرتها على منع إحداث أصنافٍ جديدة بميزات تكافئ ميزات الأعشاب البريَّة. يقول مور: "إحدى الأدوات الرئيسة في هذا العمل كانت تعديل الجين، التي سمحت لنا بإجراء تغييرات دقيقة في الحمض النووي للقمح، وبدونها كنا سنظل نعاني منها، وهي من صنعت كل هذا الفارق المهم".
صحيفة الغارديان البريطانيَّة