رحيل ومرارة

الصفحة الاخيرة 2023/01/28
...

جواد علي كسار



كان آخر تواصل معه بعد ظهر يوم الثلاثاء الماضي، حين بعثتُ له مقال الانثربولوجي العراقي صديقنا د. علاء حميد إدريس، المعنون: «حكم الرعاة: عراق ما بعد 2003» وذيلته بملاحظتي: «مقال مهم جداً»، فكتب لي بعد ساعة: «سأقرأه، شكراً جزيلاً».

ولأنني خبرته بدقة القراءة، وحُسن الفهم، وعرفته بعقله النقدي الهادئ، فقد كنتُ لهفاً أن أسمع رأيه بنظرية علاء حميد عن «حكم الرعاة»، وفكرت أن أتصل به في اليوم التالي لكي نُناقش الموضوع، كما نفعل غالباً.

في حوالي الساعة الرابعة من يوم الأربعاء بعثتُ له مقالي الأخير في «الصباح» عن هاشمي رفسنجاني، بيدَ أن الخبر الصاعق لم يمهلنا سوى ساعتين فقط، حين فُجعنا جميعاً وفي المقدّمة أهله وبقية أصدقائه ومعارفه، بصورته وخبر نعيه: فوزي البكري في ذمة الله!

عرفتُ فوزي البكري منذ ثمانينيات القرن المنصرم، وقد ارتبطنا بصداقة وثيقة، تجاوزت حدود المعرفة وهموم الناس وقضايا المهجر، إلى إخوّة عميقة قرّبت بيننا روحياً ونفسياً، حتى ونحن نختلف في المواقف والأفكار.

انصرف فوزي للعمل الثقافي والإعلامي، وعمل في مواقع متعدّدة ربما كان  أبرزها مجلة «التوحيد»، التي شهدت على عهده وبفضل رئيسَيْ التحرير علي المؤمن ثمّ ماجد الغرباوي، تحديثاً كبيراً في مادتها ومحاورها ومنهج التناول. وعندما عاد بعد السقوط إلى مدينته الكوت وتبوأ موقع مدير الوقف الشيعي، حوّل موقعه إلى منصّة حقيقية لخدمة الناس، كما شهدتُ ذلك بزيارتين قمتُ بهما إلى المؤسّسة.

عرفته رشيقاً في الحضور والإطلالة والملبس، مُبتسماً على الدوام، كثير التفاؤل، بيدَ أن الأهمّ بنظري هو عقله الهادئ المنظّم، ونزعته التفكيكية النقدية، ولسانه العفّ، وقلمه الأنيق الذي يختار مفرداته بأناقة ورشاقة متناهيتين. تشهد على هذه الخصائص مجتمعة نصوصه في الصحف والمجلات، وأيضاً كتابه: «أزمة الكويت: الخطاب وإشكالية المرجع» (صدر: 1998م) فقد حوّل كتابه هذا إلى منصّة لتحليل أزمة الخطاب، حين كشف أن المثقفين العرب والإسلاميين الأصوليين المؤيدين لصدام توحدهما معاً مرجعية مشتركة، فبادر إلى تفكيك زيف الاختلاف الأيديولوجي المفترض بينهما، بعد أن وحدهما تأييد صدام ونظامه، فعاشا إشكالية المرجع حسب تعبيره.

لقد جلسنا في أحد لقاءاتنا ووضعنا مخطّطاً لإصدار بحوثه ومقالاته في كتب، بالإضافة إلى ذكرياته الشهودية على وقائع كثيرة، منها تسنمه موقع الأمين العام لاتحاد الكتّاب العراقيين في المهجر؛ لكن غيابه الفاجع المفاجئ أوقف هذه المشاريع، وإن كانت لا تزال الفرصة قائمة لمشروعٍ اقترحته منذ عقدين، يقضي بإصدار عمل موسوعي عن نحو مئة كاتب من المهجريين، وغياب فوزي البكري مناسبة موائمة لتجديد هذه الدعوة!