مراجعات الإسلاميين السنة

آراء 2023/01/30
...

 ابراهيم العبادي

تبادر الانظمة والحركات والاحزاب السياسية إلى مراجعة فكرها وخطابها وتجربتها، اذا امتلكت رؤية للمواكبة والتجديد والاستيعاب، لا يمكن لاي حركة أو حزب ان تحافظ على رضا جمهورها الذاتي ومحازبيها وترغب في توسيع رقعة حضورها ومساحة تأثيرها، ما لم تستجب للمستجدات الفكرية والسياسية والقيمية، عالم اليوم يضج بالمشكلات والتحديات المنظورة وغير المنظورة، ومن وحي التجارب والممارسات والاساليب المتكاثرة، تتكيف حركات واحزاب بمرونة وحيوية

 وتتخلف أخرى لجمودها وعدم قدرتها على قراءة الواقع بذكاء اجتماعي وعقل عملي فعال، وقد يكون ذلك بسبب هيمنة فكر القادة التاريخيين وتقديس ميراثهم السياسي، والدوران في حلقة الأصالة دونما حساب للمعاصرة ومتطلباتها واستحقاقاتها، وقد يكون بسبب افتقاد العقول المفكرة (جدب فكري) وضعف القدرات الثقافية، والممانعة التي يبديها (الحرس القديم) للقوى الجديدة ذات التطلعات المتجددة، فقد عانت الحركات الاسلامية من عقدة القيادات التاريخية والرموز الكبيرة وجيل التأسيس، كما أسهم العمل السري واقتصار اتخاذ القرارات وصنع الافكار والسياسات على الحلقات القيادية الكبرى.. في سد منافذ الاستماع لما يجول في عقول القواعد الشبابية، وحالت الصرامة التنظيمية وغياب التشاورية والديمقراطية دون احداث التغيير الضروري في الهرمية القيادية، بما يحرك السكونية ويعود بالحيوية المطلوبة. 

كان هذا باختصار ما تعلق بالجانب الذاتي والعالم الداخلي .

فقد اهملت الكثير من الحركات الاسلامية هذه القضايا، ولم تنتبه اليها، كما لم ينتبه الكثير منها إلى الجانب الموضوعي أو العالم الخارجي، خصوصا علاقة الفكر بالسياسة، كان السؤال الأكثر إلحاحا على جميع الحركات الاسلامية، والتي لم تستطع الاجابة عليه، ماهي السبل التي اعتمدتها وجعلتها منهاج عمل لتحقيق هدفها في (اعادة الحياة الاسلامية) إلى سابق عهدها، كي يسود الاسلام نظاما وتشريعا وفكرا وثقافة واخلاقا كما تريد؟

هناك اختلاف فاحش في الرؤية بين من يسعى إلى اعادة النظر في القراءة السابقة وبناء رؤية جديدة، وبين من يريد الاستمرار في نهج الخروج على الحكام والانظمة السياسية (الطاغوتية) والنظام الدولي والثقافة الاجتماعية بفكر الجهاد والقتال والنكاية والشدة والغلظة، بما يستلزم إباحة الدماء وهدم العمران وشن الحروب والمبالغة في العنف المسلح، وفرض الخيارات القاسية وتطبيق مفاهيم التكفير والردة والبراءة، كما تفترضها النصوص التأسيسية، تجارب بعض الحركات التي عاقرت هذا الفكر، انتهت بها إلى مراجعات شهيرة، كالتي حصلت في مصر بعد البيان الشهير الذي اصدرته الجماعة الاسلامية في تموز 1997 لوقف العمليات العسكرية ضد اجهزة الدولة المصرية والسياح الاجانب، هذا البيان فتح الباب لنقد ذاتي وتطور إلى اعادة فهم للكثير من المفاهيم التي لم تكن تقبل النقاش فيما سبق، هذا ماأثار ردود فعل وهجمات مضادة من الرافضين الذين اتهموهم بالتراجع عن المبادئ والاصول، حتى أن رمزا جهاديا معروفا هو (طارق الزمر) اصدر بعد ذلك كتابا اسماه (مراجعات لا تراجعات) عام 2008 للرد على ذلك، تناولت المراجعات قضايا الغلو في الدين والتكفير والجهاد، والتعامل مع اهل الكتاب، والحاكمية والموقف من تفجيرات تنظيم القاعدة والاخطاء والاخطار الناتجة منها، تلت ذلك مراجعات لتنظيم الجهاد المصري عام 2007، نشرها الدكتور سيد امام الشريف في الصحف، كما صدر عن الجماعة الاسلامية المقاتلة في ليبيا كتاب حمل اسم المراجعات ايضا، وبالاجمال فإن قسما من ما يسمى بالتيار الجهادي كان هو المبادر إلى هذا اللون من المراجعات، بعد سلسلة من المواجهات الدامية الطويلة، اما اللون الاخر من المراجعات فقد اختصت به الحركات الاسلامية غير المسلحة، والتي دخلت في صدامات غير مسلحة مع الانظمة، ثم سنحت لها الفرصة لممارسة العمل السياسي والدعوي والمشاركة بالسلطة، عبر 

النظم الانتخابية التي تبيحها الممارسة الديمقراطية، وهذه الحركات بدأت بالمراجعة بمستويات متعددة منها القبول بالديمقراطية بعدما كانت تعدها كفرا والتعامل مع العلمانيين، والتعايش مع العلمانية الحاكمة، والقبول 

بالواقع السياسي الداخلي والخارجي القائم، والتوقف عن العمل والدعوة إلى اقامة نظام اسلامي ديني وفق منظور الخلافة التاريخي، واستبدال هذا النهج بنهج اسلمة الحياة تدريجيا وقيادة الحكومات لتحقيق تلك الاسلمة، هذا المنهج شمل حركات النهضة التونسية و(مجتمع السلم) (النهضة) الجزائرية والتوحيد والاصلاح والعدالة والتنمية، المغربيتين، وقبلها اخوان 

مصر والسودان والاردن التي شاركت في السلطة على مراحل مختلفة قبل ان تعود للصدام مع اجهزة الدولة بدرجات مختلفة، ويمكن عد حزب العدالة والتنمية التركي المثال البارز على الحركات التي تكيفت مع الواقع السياسي والدستور القائم، أن النموذج التركي يصلح وحده للدراسة المعمقة لمرونته وبراغماتيته وقدرته على الافلات من عوائق قانونية واجتماعية وثقافية كثيرة، بما مكنه من الوصول إلى السلطة وممارستها من الباب الواسع وكسب الجمهور واقناعه بالانجاز التنموي والاقتصادي وليس أستغراقا بالفكر والايديولوجيا، والكلام الكثير عن الخطوط الحمر ونماذج الاباء  التاريخيين.

يلاحظ أن مستويات النجاح التي احرزتها بعض هذه الحركات رغم تفاوتها، تعكس قدرة على الاقتراب من ما يطلق عليه (فقه الواقع ووعي الاولويات)، وقد جنبها ذلك الصراعات المسلحة والحصارات الداخلية وتلك العابرة للحدود، لكنها لم تنج بالكامل من نقد الاجنحة المحافظة وشكوك القوى المناوئة.

الدرس الكبير الذي تقدمه هذه المراجعات أنها فتحت مسارات جديدة ورؤى مغايرة لما كان يعتقد يوما أنها خطوط حمر وحقائق نهائية، في الجهة الاخرى ظلت حركات اخرى تعيش صنمية الافكار والمناهج وجمود الخطاب والرؤية، بما يعكس انفصالا عن الواقع والعيش بالاوهام، كما هو حال حزب التحرير الذي يمثل نموذجا للتصلب الفكري والجمود السياسي، يكفي مثالا على ذلك أن انصار الحزب في بلجيكا يخرجون في تظاهرات تدعو إلى 

اقامة حكم الشريعة في هذا البلد الاوربي الذين يدين أكثر سكانه بغير الاسلام ولا مشكلة تشريعية أو سياسية يكابدونها، ويسمح قانونه لأمثال محازبي حزب التحرير بالحصول على اللجوء السياسي والانساني هربا من دار الاسلام (مواطنهم الاصلية ) حيث فشلوا 

في اقامة حكم الشريعة، إلى بلجيكا (دار الكفر)، ليمارسوا مهمتهم الجهادية، وهذا هو الاساس الفكري المتطرف وغير المعقول الذي يغذي فكر السلفيات القتالية التي عاثت في بلاد المسلمين قتلا وتدميرا وقدمت للناس ثقافة الموت لا ثقافة الحياة 

والبناء.

فتحكيم الشريعة عندهم هي الحل، بغير توفير شروطها ومقتضياتها وتهيئة مستلزماتها، بما فيها قناعة الجمهور سلميا لا اكراهيا.