جواد علي كسار
تعود أول رؤيتي لأجهزة الصرف الآلي إلى صيف عام 1986م في السعودية، وقد كانت تعيش مع بقية بلدان الخليج خدمات متطوّرة عالمياً على مستوى الاتصالات والمصارف، بينما كان بلدنا يعاني العزلة من ذلك كله، تحت مآثر: «القادسية الثانية» و«الدفاع عن البوابة الشرقية»!
شهدت تلك البلدان وغيرها من دول الجوار نقلة كبيرة في خدمات المصارف، بعد أن تحوّلت إلى ثقافة مجتمعية قائمة على شبكة متكاملة من البُنى التحتية، والإدارة العلمية والإنسانية، في ظلّ ثقافة آمنة قائمة على الثقة بين المواطن والحكومة، وفي المقابل انكمشت الثقافة المالية والمصرفية في بلدنا أكثر أسوة بتخلف بقية النظم الإدارية، لاسيّما بعد أن تحوّلنا إلى عنتريات: «ضمّ الأصل إلى الفرع» و: «حرق نصف إسرائيل وتحرير فلسطين من البحر إلى النهر» وأمثال ذلك، لنخسر بذلك ربع قرن من زمن التقدّم!
في بلدان الخليج اليوم وإيران وتركيا وحتى الأردن وسوريا قبل دخولها في نفق الدمار، تجربة بنكية متقدّمة على مستوى الأنظمة المصرفية وتقديم الخدمات للمواطن، لا مجال لمقارنتها بالعراق. وإذا شئنا الإنصاف فالسبب لا يعود إلى فارق الانشغال بين تلك البلدان وبلدنا إبّان النظام الساقط، بل أيضاً إلى علاقة الثقة بين مواطني تلك البلدان وحكوماتها ونظمها الإدارية، إذ لم يكن المواطن هناك يعيش القلق والشك والريبة، بل الخوف على أمواله ومدّخراته كما كان العراقي يعاني من ذلك ولا يزال. والأهمّ من ذلك برأيي هو الفارق في الخيارات الاقتصادية، فبينما كنا نعيش تحت نقمة الاقتصاد الاشتراكي الأحادي الصلب، كان الآخرون ينعمون ببعض نِعَم اقتصاد السوق بصيغته المركبة المرنة.
بعد السقوط شهدنا تطوّراً كبيراً في الأفق والسفر والحرية السياسية والإعلام المفتوح، لكن بقينا بمعزل شبه كامل تقريباً عن التطوّرات في الأنظمة المصرفية، ولم ترقَ تجربتنا للآن إلى مماشاة ما موجود في دول الجوار، لا سيّما الخليج وإيران، إذ تطوّر الدفع الإلكتروني هناك في المحلات والأسواق، بل تحوّل إلى ثقافة شائعة حتى عند باعة الخضرة والفواكه المتجولين، ما قلل كثيراً من دور النقد، فضلاً عن تطوّر الحوالات وتدوير الأموال، والإيداع، والقروض، والأرباح.
الحكومة قرّرت إدخال نظام الدفع الإلكتروني بعد أشهر من الآن، وهذا ليس خياراً، بل هو مسار لا بدّ منه، لكن فضلاً عن البُنى التحتية، وتدريب العنصر الإنساني؛ يحتاج القرار أيضاً حتى ينجح، إلى ثقافة اجتماعية يسهم بها الجميع من اقتصاديين ومصرفيين وسياسيين وإعلاميين واجتماعيين، بل حتى المنابر الدينية، ما يفتح المجال لمعالجات فقهية معاصرة مستبصرة وجديدة، بشأن النقد والبنوك، ومفهوم الإدخار والأرباح المصرفية وما إلى ذلك.