رحلة صيد

الصفحة الاخيرة 2023/02/07
...

حسن العاني



في وقت مبكر من مراهقتي، وأنا ابن ست عشرة سنة، تعلقت بصيد السمك حتى أصبح هوايتي المفضلة، وربما شجعتني على ذلك طبيعة المكان الذي فتحت عيني عليه في مدينة من مدن أعالي الفرات المطلة على النهر مباشرة، إذ كنت مع أقراني لا نبتعد عن (الشط) كلما سنحت الفرصة، والسنارة لا تفارق أيدينا، ولا أذكر أنني عدت إلى البيت يوماً من دون سمكة تكفي الأسرة، وأحياناً أكثر من سمكة، وكانت تلك هي حال زملائي وأعتقد بأنني منذ ذلك الوقت المبكر تعلمت الكثير من فنون الصيد واستعمال السنارة وشروط العمل في الماء وأهمية الصبر والانتظار.. الخ.

بغداد والإعلام والنسوان والحياة الثقافية، أخذتني بعيداً عن الزورق والنهر والسمك، ولكنها لم تستطع التأثير على عشقي للنهر والصيد وأمنيتي بالعودة يوماً إلى الماء، وها هو حسن الحظ يفتح أمامي فرصة أكبر من أمنياتي وأحلامي، إذ وصلتني دعوة كريمة من صديقي الكردي العزيز (أبو فريدون) المقيم في أميركا، والمتنقل بين البلدان الأوروبية، يطلب فيها بإلحاح أن أزوره هناك، خاصة مع وجود صديقين لنا معه، هما عيسى الياسري ورياض شابا، ولكي لا أتهرب من الدعوة فقد وعدني بأنه اتفق معهما على القيام برحلة صيد إلى المحيط – لا أدري أن كان يمزح ـ  ولهذا أنعش عشقاً قديماً في روحي للصيد في مياه غير التي أعرفها.. لو صحّ وعده!.

على أية حال، في كانون الأول من العام الماضي التأم شملنا، أربعة أصدقاء أقرب ما نكون إلى الإخوان، أو نحن كذلك حقاً. كان الثلاثة مجمعين على الذهاب إلى المحيط إكراماً لي قبل أي اعتبار آخر. وهكذا وجدتُ نفسي معهم في مركب أنيق، ومعنا مستلزمات الصيد ومجموعة سنارات من أنواع غريبة وحجوم متباينة .

أية متعة وأي انتشاء وأنا أصطاد أنواعاً من الأسماك لم أعهدها في دجلة والفرات، وإن كانت جميعها صغيرة جداً، وفجأة شقّت الماء سمكة كبيرة أثارت من حولها أمواجاً مرعبة كادت تقلب المركب، وقد قدرتُ وزنها بثمانين كيلوغراماً، وربما يصل وزنها إلى المئة، قبل أن أسمع أحدهم يقول [أعتقد أن هذا الحوت وزنه لا يقل عن ثلاثة آلاف كيلوغرام)، كان صديقي الياسري أكثرنا مهارة ومعرفة بصيد الأسماك الكبيرة، ولذلك دعانا إلى استعمال السنارات الحمر – لم أرَ مثل حجمها في حياتي – وطلب أن نرميها في وقت واحد، وهكذا تهيأنا، وفي اللحظة التي أردنا رميها ظهرت وراء الحوت وعلى جانبيه حيتان أضخم بكثير، رصت صفوفها وهاجمتنا وسرعان ما ابتلعتنا مع المركب والسنارات، ووجدت نفسي مع الآخرين ومع كل شيء في بطن أصغر الحيتان، كنت أختنق شيئاً فشيئاً حتى قاربت من الموت وصرخت بأعلى صوتي، ونهضت من نومي مفزوعاً وأنا ألعن الحيتان جميعها، وخاصة الكبيرة!.