حسن عودة الماجدي
بعد قيام ثورة 14 من تموز عام 1958 بفترة وجيزة وتحديداً لدى عودة العقيد الرّكن عبد السّلام محمد عارف (الشّخص الثّاني في قيادة الثّورة) من دمشق بعد زيارته للرئيس جمال عبد النّاصر في 19 من تموز العام نفسه أخذ يفكّر بالإطاحة بالزّعيم عبد الكريم قاسم وقيادته الوطنية التّحررية للجمهورية الفتيّة تحت واجهة الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة برئاسة عبد النّاصر، ومن ذلك التاريخ وبعد فشل محاولاتٍ عدة بدءاً بحركة الشّواف في الموصل ومؤامرة رشيد عالي الكيلاني ومحاولة اغتيال الزّعيم الفاشلة في رأس القرية بشارع الرّشيد وحركة ناظم الطبقجلي في كركوك، إذ بلغ التآمر إلى أكثر من ثلاثين مؤامرة وآخرها الشّباطية الموجعة في الثّامن منه عام 1963 التي قال النّاس عنها (ألا ليت يوم شباط لا كان إنّه – يُدمي القلوب من توّحش ذكراه ومن إطلالة بعث الموت والحرس المجرم) أمّا بريطانيا في هذا الخصوص قد توّلت ترويض ثورة الرّابع عشر من تموز عام 1958 أي في الوهلة الأولى للثّورة بمساعي داخليّة وخارجيّة ولكنّها اختلفت مع إميركا على أيّهما أخطر الشّيوعية وعبد الكريم قاسم، أم قيام الوحدة العربية وعبد النّاصر، إذ ظلّ هذا الخلاف والتّوجّس في وجهة نظرهما قائماً حتى مطالبة الزّعيم بالكويت في 25 حزيران عام 1961، وكذلك إصدار القانون رقم (80) النّفطي في 15 كانون الأول عام 1961، وعند ذلك فقط وجهتا النظر حول ضرورة إزالة الشرّين (كما يقولون) ولكنّهما اخلتفا أيضاً من الذي يُزال أولاً قاسم أم عبد النّاصر؟ بريطانيا ترى في عبد النّاصر ودعوته إلى الوحدة الشّر الأكبر والخطر الأعظم على مصالحها والغرب أجمع، من هذا إنّ أميركا قد تبنّت احتواء الشّرّين وإزالة الخطرين على اعتبار درجة خطورتهما واحدة وأيّهما يسقط أولاً يسهل سقوط الثّاني، ونتيجة لهذا التّفكير المحموم على الثّورة والزّعيم من قبل الإمبرياليين وخليط الأديولوجيّات غير المتجانسة، رأى الغرب أنّ النّظام في بغداد أخذ يضعف لذلك أجرت وزارة خارجية بريطانيا في لندن اتصالات مع سفارتها في بغداد وحلف الناتو في باريس تقويماً لحالة العراق ومركز عبد الكريم
قاسم.
والتّطورات المحتملة بعد الإطاحة بالزّعيم، ومن هذا قرّرت أميركا تعزيز روابطها بمعارضي الزّعيم للإسراع بالإطاحة به، وهذا ما تؤكده الوثائق البريطانية على حجم التّآمر بدءاً بالوثيقة رقم (1) المرسلة من خارجيتها إلى سفارتها في بغداد وحتّى آخر وثيقة تآمرية رقم (19) في 5 آذار عام 1963 التي كشفت جليّاً عمّا يكن له الأشرار في الخارج والدّاخل ضد ذلك القائد المتميز في النّزاهة ونكران الذّات والمسامح الجم بين العشرات الذين حكموا العراق بعد تأسيس بغداد من قبل الخليفة العباسي (أبو جعفر المنصور) من
(754 – 775) حتّى يومنا هذا، كذلك من يتذّكر عهد الزّعيم تتزاحم أمام عينيه المنجزات التي قلّ مثيلها في المنطقة العربية، وأمّا على الصّعيد الاجتماعي ألغى نظام الإقطاع والحكم العشائري ومورثه الجاهلي فهو الذي أحجم التاريخ عن تكراره حتّى اللّحظة.
عموماً، إنّ الثّامن من شباط الأسود عام 1963 هو من صنع الوثائق المذكورة التي كشف عنها (ديفيد وايز) في عهد الرئيس الأميركي الأسبق (أيزنهاور) ومنها الوثيقتان رقم (1) في 28 /1 / 1963 والأخيرة رقم (19) في 5/ 3/ 1963 المرسلتان إلى سفيرهم في بغداد (دي الكود جايلد)، إذن يتبيّن بما لا يقبل الشّك ركوب الشّباطيين القطار الأميركي الذي رفع سارية التآمر البحثي المقبور علي صالح السّعدي، أمّا الزّعيم الخالد حقيقة أنّه وكأي شهيد في التاريخ وهو أقوى بعد مصرعه ممّا كان عليه في حياته وسيبقى المثل الأعلى للوطنية والنّزاهة المنقطعة النّظير، حيث أنّه أي الزّعيم قد سبق الأولين حقّاً وأقحم الآخرين من بعده في الوطنية والنّزاهة حتى اللحظة، أمّا الشّباطيون الذين أسّسوا أكبر قاعدة من الرّعب والإجرام قد ماتوا وتركوا إرثاً تقشعر منه أجساد الذّاكرين.