كاظم الحسن
يصف المؤرخ البريطاني البداوة، بأنها حضارة مجمدة، أي أنها غير قابلة للتطور والتغيير لأنها متنقلة، وليس فيها استقرار أو اعمار أو بناء، لكي يصحب ذلك التطور الطبيعي في حياة الشعوب وطالما كانت الغزوات،هي عماد معيشتهم، فأصبح الكرم،هو عنوانهم الأول، وقد اطلق الباحث الاجتماعي علي الوردي على البدوي « نهاب وهاب «، أي أن ما يغنمه من غزواته في صراعه مع الطبيعة المجدبة، يجعله مائدة للضيوف، وهو بهذا يبقى دائما اسير الطبيعة الصحراوية، التي تجمدت على وقع الترحال والتنقل، الذي لم يعط للبدوي فرصة البناء والإعمار، أي إن العمل الذي ينظم حياة الانسان مفقود وقد يكون الاقتصاد البدوي ريعيا ان جاز التعبير، الأموال لا تأتي عن جهد انتاجي بل طفيلي، حتى اذا اخذنا الثأر الذي يغلف حياة البدوي، ينطلق من طبيعته كمحارب لا يرتضي الهوان، الذي يشعر به اتجاه الجاني. تمثل الصحراء انعكاساً للحياة القاسية والخشنة التي يعيشها، وهو يعد الترف نوعاً من الفساد، وقد وصف ابن خلدون استحواذ البدوي على السلطة نتيجة العصبية القبلية وتنحل هذه الخصلة بعد حياة الرغد والدعة والترف، وهذا يفسر سلوك الانسان بأنه رهين بالبيئة التي يعيش بها. وقد كانت للشاعر علي بن الجهم وقفة لأول مرة بين يدي الخليفة العباسي المتوكل، مادحًا، وهو الشاعر البدوي الفصيح المطبوع، فلم تسعفه قريحته بأجمل من هذا الكلام بقوله للخليفة:
أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوبِ
أنت كالدلو لا عد مناك دلوًا
من كبار الدلا كبيرَ الذنوبِ
ودهش الحاضرون، في مجلس الخليفة، من هذا الشاعر، الذي يمدح الخليفة بأنه كالكلب في حفظه الود، وكالتيس في مواجهة المصاعب والأخطار، وكالدلو الذي يحمل الماء ويجلبها ــ كثير الذنوب ــ اي غزيرة من قاع البئر، لكن الخليفة المتوكل لا يغضب، ولا تصيبه الدهشة، وإنما يدرك بلاغة الشاعر ونبل مقصده وخشونة لفظه وتعبيره، وأنه لملازمته البادية، فقد أتى بهذه التشبيهات والصور والتراكيب.. ثم هو يأمر للشاعر بدار جميلةٍ على شاطئ دجلة، بحيث يخرج الشاعر إلى محال بغداد يُـطالع الناس ومظاهر مدينتهم وحضارتهم وترفهم فكانت له هذه القصيدة «عيون المها بين الرُّصافة والجسر/ جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري». يقول المتوكل: انظروا كيف تغير به الحال، والله خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة. البيئة كان لها الأثر الكبير في نزوعه إلى شعر الغزل الرقيق، الذي اضفى عليه مسحة جمالية، كانت كامنة في نفسه اظهرها، المكان الجديد بمائه وخضارهه وجماله وسحره. بل إن الصحراء تنعكس على اسماء البدو ذاتها، فنراها تتوسم اسماء الحيوانات المفترسة، مثل صقر، نمر، أسد أو اسماء صلدة صخر، حرب شاهين عقاب وغيرها من الاسماء، التي ترتبط بقساوة البيئة التي يعيش بها
البدوي.