التبعات السياسيَّة لزلزال شرق المتوسط

آراء 2023/02/23
...





 سناء الوادي 


لعنة الجغرافيا تصبّ جام غضبها من جديد على قاطني تركيا وتحرق بأنفاسها اللاهبة مناطق من جارتها الجنوبية سوريا وتهزّ الأرض تحت لبنان وشمال العراق، ففي السادس من شباط الجاري وقع المحظور الذي حذّر منه علماء الجيولوجيا منذ عدة سنوات بعد دراستهم لحركة الصفائح العربية والإفريقية والأناضولية واحتمالية التصادم في ما بينها، لتُصاب المنطقة الأضعف بزلزالٍ خلّف دماراً هائلاً في المباني وخسائرٍ بشرية واقتصادية فادحة، وكما هو المتعارف عليه بعد وقوع الكوارث تتكشف الكثير من الحقائق حول قدرة الدولة المصابة في التعامل مع الآثار السلبية الناتجة إضافةً للتغييرات السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي.

إنّ الزلزال الذي ضرب محافظات الشمال السوري بادئ ذو بدء، قد عرّى الدول الغربية التي تصلي دائماً للإنسانية وتبيح لنفسها التدخل في الشؤون الداخلية والتعدي على سيادات الدول بحجة الإنسانية الواهية التي تهاوت تحت أقدام الشعب السوري الصامد أمام الحصار الخانق منذ سنوات، لتتوج معانته اليوم بالموت خنقاً تحت الركام بعدما صارت جهود الإغاثة تكال بمكاييل السياسة الوضيعة، فتفرّق مجدداً بين السوريين تحت مسميات قذرة تعطي الحق بالحياة، لمن هم تحت سيطرة المجموعات المسلحة وتمنعها عن القابعين تحت سلطة الدولة السورية. 

وللإنصاف فإن المسيطرين على تلك المناطق الشمالية قد خُذلوا من داعميهم وأصواتهم لم تلق الاستجابة وأنينهم ملأ الأرجاء بلا جدوى تذكر لأجل نزاع دنيء على استلام المساعدات الإغاثية وشرعنة سيطرتها دولياً وتحقيق المكاسب السياسية، في حين أن لهفة الدول العربية التي هبت بأقصى سرعتها للوقوف إلى جانب اخوتهم السوريين متجاهلين قيصر والعقوبات هو ما سيذكره التاريخ كبيارق بيضاء ناصعة في سجل وحدة الدم العربي، وعجلات طائراتهم الأبية الطاهرة التي هبطت للمرة الأولى منذ عقدٍ ونيّف في مطارات حلب ودمشق قد بلسمت الجراح وأبرقت الأمل في أن تكون نقطة الانطلاقة لعودة العلاقات الدبلوماسية والسياسية شيئاً فشيئاً.

أمّا على الجانب التركي فمن المؤكد أن كيفية تعامل الحكومة التركية مع هذا الحدث الطارئ سيؤثر بشكل كبير في فرص الرئيس التركي أردوغان في الانتخابات المقبلة شهر أيار القادمـفالأولوية أمام الشعب التركي باتت بإنقاذ المتضررين من هذه الكارثة واحتواء الآثار السلبية قدر الإمكان، وهو ما يتوقعه الكثير من الرئيس الذي وصل لسدة الحكم مع حزب العدالة والتنمية في العام 2002م على خلفية الزلزال المدمر في مرمرة وعدد ضحاياه تجاوز 17 ألفاً وفقدان ثقة الناس آنذاك بالإئتلاف الحاكم، فقدّم حزب العدالة نفسه على أنه أكثر كفاءة في التعامل مع احتياجات المواطنين، وهذا ما يشكل التحدي الأكبر أمامه حالياً خاصةً إذا ما استثمرت الأصوات المناهضة لأردوغان هذه الكارثة لفتح ملفات مخالفات البناء ومدى الالتزام بقانون الإنشاءات على أسس مقاومة الزلازل وفشل الحكومة بتطوير ستراتيجية وطنية للتعامل مع هكذا كوارث متوقعة.  ناهيك عن تلك الاتهامات المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي الموجهة لحكومة أردوغان بالتسبب بزيادة الضغط على مسام الأرض وضخامة التحميل السطحي على إثر بناء تركيا لما يقارب ثلاثة عشر سداً لاحتجاز نهري الفرات ودجلة،حيث تشير الدراسات إلى أن معدل الزلازل قد زاد بشكل كبير بعد المليء الدوري للسدود، ومن الجدير بالذكر أنّ ذلك ما حرم العراق من حصة كبيرة من مياه النهرين، لربما ذلك سيفتح عدة ملفات داخلية شائكة أمام أردوغان.

وعلى صعيد آخر فالنهج الذي سار عليه الأخير في الشهور الماضية للتقارب مع الحكومة السورية لم يعد أولوية بالنسبة له إذا ما كانت مقاصده التوصل لحلول بشأن عودة اللاجئين السوريين لبلادهم وسحب ورقة الضغط هذه من أيدي المعارضة والتعاون مع الجيش السوري لإنهاء التهديد الكردي على حدودهما المتمثل بقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، كذلك لم يعد ملحاً القيام بعملية عسكرية في شمال سوريا التي تضررت كثيراً جراء هذا الزلزال، ذلك سيقدم عذراً جيداً للرئيس التركي حول تأجيل اللقاء المرتقب مع الرئيس السوري لانشغاله بهذه المأساة، وهنا تظهر للعلن صدق النوايا من عدمها.

لم يرخِ هذا الحدث الجلل بظلاله على خارطة البلدين الجغرافية فحسب، بل سيرسم خارطة سياسية جديدة لامحالة ففي وقوف تركيا الواضح إلى جانب روسيا في حربها على أوكرانيا، ومع ذلك فقد أرسلت أوكرانيا الإغاثة والطواقم الطبية الخبيرة لتركيا ضمن مجموعة كبيرة من الدول الغربية، كيف ستكون ردة فعل أنقرة مع ذلك في قادم 

الأيام؟ 

ومع التحذيرات المتزايدة من الجيولوجيين باحتمالية حدوث هذه الكوارث مستقبلا، لا بد للدول الواقعة فوق الصدوع وعلى حواف الصفائح التكتونية أن تتبنى ستراتيجية شاملة لتدعيم المباني القائمة لزيادة قدرتها على الصمود وبناء الإنشاءات الجديدة على هذا الأساس، لذلك ربما ستخصص جزءا من موازنتها العامة وإعطاء هذا الملف اهتماماً أكبر. 

رحم الله الضحايا الأتراك.. والعزاء لمصاب بلادي الكبير...

 كاتبة سورية