أسئلة التعدديات القاتلة

آراء 2023/02/25
...

 محمد حاذور



قبل عام ونيف، بتاريخ 22/7/2021 بالضبط، كنت عائداً من البصرة نحو الناصرية. كان الوقت مساء. كنا ثلاثة. أنا ورفيقي خلف السائق والثالث بجواره. عند وصولنا لمركز مدينة الناصرية، كانت أجواء الفرح والاحتفال بادية على الشوارع والأسر المتجولة، لأنها كانت أيام عيد الأضحى. تساءل الشاب المجاور للسائق: ليش هاي الناس فرحانة ومتونسة ومعيدة، ولا چن قبل چم يوم احترگت عشرات الناس وتفحمت جثثها وصارت رماد وحتى تراب گبورهم بعده ما ناشف؟.

هذا السؤال الاحتجاجي، جاء على حادثة الحريق الذي التهم مستشفى الحسين التعليمي- قسم العزل المخصص للمصابين بفيروس كوفيد- 19، الحدث المأساوي الذي مر بصمت مرعب. 

عَلِقَ سؤاله المؤلم بذهني فضلا عن المسببات بهذه الصورة الاجتماعية الممزقة. إضافة لذلك، كان صاحب السؤال طوال الطريق، يجري ويستقبل اتصالات مع بعض أصدقائه حول معركة جارية بين فئتين من نفس القبيلة، راح ضحيتها أربعة عشر قتيلا من بينهم ثلاثة من قبائل أخرى تدخلوا لفض النزاع، وجاءت الشرطة أثناء تبادل الرصاص لكي تنهي هذا الشجار، لكنها فرت هاربة بسبب شدة المعركة. وقريباً من هذا السياق، ما هو مستوى الحضور والتفاعل الايديولوجي في المناسبات الاجتماعية بمختلف أشكالها ونوعياتها؟.

إن الإشارة إلى الخلل الذي تسبب بالظاهرة الاجتماعية السلبية التي نحن بصدد الوقوف عليها، ينبغي أن تكون إلى جذر المشكلة: الدستور الذي قسّم نظام الحكم إلى مكونات طائفية ودينية: سنية وشيعية وكردية، تمثّلت فيما بعد في المشهد السياسي، والأخير، لا حدود لانعكاساته على الواقع. ولم تبقَ التقسيمات على إطارها الطائفي، إنما تفرّخت إلى عدة تجمعات وأحزاب وتكتلات، انعكست على المجتمع ونجحت بتمزيقه إلى فئات ومسميات ولكل حزب وشخصية قطيعها التابع لها. ومن البديهيات أن يكون لكل حزب جمهور في الواقع، إنما على المستوى الانتخابي بناء على ما سيقدمه الحزب لمن سينتخبه فحسب وليس التحكم في شؤون الناس وتقرير مصيرها والتلاعب بمكانتها الاجتماعية.

ساهمت التقسيمات الطائفية السياسية، عبر الأحزاب وشخصياتها والمرجعيات، بتفتيت الروح الاجتماعية إلى عدة تكتلات: جمهور حزب الدعوة وجمهور نوري المالكي المنبثق من نفس الحزب، جمهور الحزب الشيوعي المشارك بالنظام الطائفي والقسم الرافض لذلك، جمهور المجلس الأعلى وجمهور تيار الحكمة، جمهور التيار الصدري، جمهور المرجعية بكافة أنواعها، جمهور الحشد، جمهور الفصائل الولائية، جمهور تشرين وعدد ما شئت من الجماهير والتكتلات الاجتماعية. لم تعد لهذه الجماهير المتعددة هوية جامعة بوصفهم عراقيين، إنما غاب اسم العراق واندحرت الهوية الوطنية لتحل محلها هويات فرعية زرعتها السلطة ونجحت بحصاد ثمارها بسهولة السير بهذا القطيع أينما تطلبت الحالة النفعية والامتيازات في الحكم والمناصب، وتنمو وتتغذى هذه الهويات الصغيرة المتصاعدة على الجذر الطائفي المتمثل بالسلطة وانعكاساته، والقبلية الحاضرة بقوة في المشهد السياسي ومؤسسات الدولة والإجراءات المبنية على الانتماء القبلي، والمكانة الاجتماعية، والحالة الاقتصادية والتحصيل العلمي وتقليد المرجعيات.

نتج عن هذه الهويات عدة حالات اجتماعية: كل فرد منتمٍ لتجمع من التجمعات التي أشرنا لها، يؤمن بقرارة نفسه وبالمجاهرة أيضاً، أنه وجماعته هو التمثيل الحقيقي للوطن والمسار الصحيح الواجب الانخراط فيه من أجل خلاص العراق من ويلاته ومآسيه. فتجد الفرد الصدري، الدعوجي، السيستاني.. الخ، يرى نفسه من الفرقة الناجية المُنَجِّيَة للمصير الماضي نحو الانهيار وباقي الفرق والتجمعات في ضَلالة وضياع. بالإضافة إلى ذلك، تتراشق هذه التجمعات في ما بينها بالشتم والسب والسخرية ولا تخلو تلك المناوشات من التعرض لشرف الناس والتطاول على أعراضهم ورميهم بالتهتك والفجور.

وتتدخل هذه التجمعات لتخترق روح الأسرة لتجعل الإخوة يتبادلون التباغض والعداوة، إذ لكل أخ هويته المختلفة والمتصارعة مع هوية أخيه الآخر. تتحكم هذه الهويات الجديدة أيضاً في الزواج، فالبنت والولد، تحضر الهويات، بوصفها معياراً، لقبول وإتمام زواجهما أو رفضه. تفرض حضورها تلك التجمعات حتى في رزق وسبّوبة العيش، في المعاملات اليومية في المجتمع، في دوائر الدولة وتسيير شؤون الناس، في المقاهي والشوارع والمساجد وحتى وصل بالأمر التدخل والتحكم في شؤون الأنشطة الرياضية والنوادي وجماهيرها.

هذا التمزق الاجتماعي وتفكك الناس إلى مجاميع متناحرة، له عدة أسباب ساهمت بإنتاجه ونجحت بالسيطرة عليه: مستوى البطالة والأمية، غياب المؤسسات التي تستقطب الجماهير من أجل الحد من مستوى الجهل المتفشي والمتداول والمتعامل به، بالإضافة إلى حالة المستوى المعيشي المتدنية وانحطاط البنية الثقافية للفرد والحالة السيكولوجية المتولدة عن ذلك، تسمح وتساهم وتدفع بالفرد لأن ينخرط مع جماعة ما بوصفها حالة اجتماعية متداولة ومقبولة، بالإضافة إلى الأثر الأكبر المتمثل بالدستور وما نتج عن ذلك داخل المؤسسات بوضع الطائفة: سني/ شيعي/ كردي، ضمن التعريفات والإجراءات في الأوراق الرسمية والثبوتية وغيرها.

والأثر المترتب جراء ذلك، تعيش هذه الجماعات صراع وجود فيما بينها: كل فئة لو قُدِّر لها ستفني الجماعة المتضاربة مصالحها معها، وكل جماعة تفرض سيطرتها على مناطق نفوذها وتمنع وصول أي فرد تابع لجهة أخرى. ثمار ذلك، بجيب السلطة: نجحت بصناعة مسرحيات ملفقة من شأنها أن تشبع الفرد بمشاكل وهموم لا طائل منها ولا مصلحة عامة وتنويمه بمعية تلك المخدرات وإبعاده عن الإشكاليات الكبرى. والفرد، بناء على ما ينطوي من جهل وفراغ، ابتلع الطعم وأبدع بإعادة إنتاجه وفق منظومته الفكرية الجوفاء.

وأيضاً، استطاعت السلطة، أن تجعل جماعاتها، تنسى أنها تنطوي على إرث غني، ثقافي وحضاري ومعرفي. وتلاشت المشتركات في ما بينها مثل اللغة والوطن والدين والإنسانية والعلاقات الاجتماعية. فأمست جماعات متكارهة ومشوهة: لا يلتقي الأخ بأخيه والطالب بزميله والجار بجاره، بل يتباغضان.

ساهمت أيضاً، هذه الهويات الفرعية، بصناعة سجون اجتماعية تمنع الفرد من التخلص منها أو عدم الامتثال لأدبياتها. بمعنى، إذا كان الفرد من أتباع المرجعية السيستانية أو التيار الصدري، سيجابه بالطرد والرفض من دائرته المتمرد عليها، أو منعه بأسلوب عنيف عن الخروج من سلطتها.

هذا التفكك داخل الطائفة الشيعية، جاء نتيجة للأحلام الوردية التي رسمتها الأحزاب الشيعية لجماهيرها، إذ نادت بصناعة مجتمع وبلد يليق بالشيعة وما ينتظرونه. لكنهم فشلوا، فخابت جماهيرهم. تفرقت الجماهير إثر ذلك إلى هويات شيعية صغيرة أملاً بالظفر بالأحلام المؤجلة. فبقت هذه الجموع تعيد إنتاج نفس العملية دون التفكير بالخروج من هذه الدوامة الفاشلة.