يا أبو (صوت) الذهب

الرياضة 2023/02/27
...

علي رياح
كان المشهد – بالنسبة لي – مألوفاً من فرط الإعادة، إذ كان فناننا الكبير سعدون جابر في كل مرّة يشحذ حنجرته بعاطفة من كل لون، فتأتي أغنيته (يا أبو رجل الذهب) بلبوس مبتكر جديد فيه تنويع رائع على نغم الرست وهو المقام الأساس للأغنية.. هو يقول: يا أبو رجل الذهب.. وأنا أردّد من مكاني وسط الحضور: يا أبو صوت الذهب!

يُطلّ عندليب العراق أمامنا على المسرح في الكويت، فيترك الحاضرون ثراءه في الأغنية العاطفية.. يؤخرون طلب (الطيور الطايرة) و(حسبالي) و(البارحة) و(عيني عيني)، ويصرفون النظر مؤقتاً عن إبداع البدايات (ناطر عيوني بدربكم) و(الگنطرة) و(تلولحي)، ويؤجلون طلب أغنية من المرحلة البليغية (أعني ألحان العبقري بليغ حمدي لسعدون (مشوارك) و(من الأول) وغيرهما)، ولا يريدون سوى الاستهلال بالأغنية الكروية التي ردّدها فيما بعد مطربون عرب كثيرون، فما تألقت إلا على حنجرة سعدون وكانت رفيقه ومفتاح حفلاته حيثما ارتحل! 

كانت بطولة الخليج العربي الخامسة عام 1979 على الأبواب. وفي السياق المتبع، كانت لكل دورة أغنية واحدة على الأقل تقترن بها وترتكن في ذاكرة الأجيال والبطولة.. لم يتنبّه المعنيون هنا في العراق لهذا التقليد إلا قبل موعده بمدة وجيزة.. بادر شاعرنا الكبير كريم العراقي إلى وضع كلمات الأغنية برغبة مشتركة مع صديقه الأثير إلى قلبه سعدون جابر وتوجها بها إلى لجنة إجازة النصوص في الإذاعة والتلفزيون والتي كان يرأسها الشاعر السوري خليل الخوري فتمَّ رفضها على اعتبار أنها لا تحمل الملامح المتعارف عليها للأغنية التقليدية وهي بدلاً من ذلك كأنها وصف تفصيلي للمباراة، عامرة بمصطلحات الكرة من قبيل (اهجم وحاول.. وراوغ وناول) و(سَكـّن كرة وشوف واهجم وانسحب) و(انتشر والعبْ، حرّك الملعب)، فأضطر كريم بدماثته المعهودة ومَلكته الشعرية الفذة إلى إعادة النظر في بعض المفردات، ليأتي الرفض للمرة الثانية بينما كان العد التنازلي لافتتاح البطولة يضغط عليه وعلى رغبته الشخصية في أن يقدم أغنية لهذا الحدث.. وفي المرّة الثالثة وحين تمَّ الرفض مجدداً، اضطر العراقي وسعدون للذهاب إلى وزير الإعلام يحملان الشكوى من التعسف في قرار اللجنة رفض نصّ الأغنية بينما لم يبق للبطولة إلا أربعة أيام، فكان قرار الوزير الذي أعجبه النص أن يتمَّ تسجيل الأغنية فوراً!

يُكمل مخرج المنوعات الرائع جمال محمد فصول الحكاية في شهادة خاصة له معي: بعد أن تمّت إجازة نص الأغنية بالفرمان الوزاري، تولى الفنان الشامل الراحل خزعل مهدي تلحينها بنفسه وهو صاحب التجربة الطويلة في عالم الكرة لاعباً معروفاً، ليقدمها عندليبنا المبدع سعدون جابر، فتنتقل إلى الجماهير بصوته وهو المعروف أيضاً بأنه كان لاعباً للكرة في أحد الفرق الشعبية في مدينة الحرية وله ولع بمتابعة مباريات الكرة، ثم كان قرار الفنان خزعل مهدي – والكلام للأستاذ جمال محمد – بإسناد إخراج الأغنية لي، وقد كان قراراً لافتاً جداً للانتباه، فالفنان خزعل مهدي مخرج تلفزيوني من الطراز الأول، ولعله أراد بذلك أن يكرّمني بالتفاتة بالغة القيمة خصوصاً أنني كنت عائداً للتو من فرنسا حيث دخلت دورة إخراجية طويلة تتعلق بالتلفزيون الملون.. وللحديث صلة وتفصيلات غاية في الأهمية سأعود إليها في مقالي المقبل!