شيعيَّة وطنيَّة أم وطنيَّة شيعيَّة؟

آراء 2023/02/27
...

 ابراهيم العبادي

بداية عام 1982 وفي حديث مع أستاذنا الراحل الشهيد عزالدين سليم، حول العلاقة بين الاسلاميين العراقيين وبين الجمهورية الاسلامية قال :(إن أدبيات الدعوة الاسلامية تعلمنا ضرورة مناصرة ودعم اي حكومة اسلامية تقوم في العالم الاسلامي، حتى لو اقتضى الامر القتال مع هذه الحكومة والتضحية من أجلها، لأن القتال والتضحية إنما لأجل الإسلام وأهداف الاسلام ).

أسوق هذه المقدمة في بداية الحديث عن موضوع يدور بشأنه جدل حاد في أوساط الاسلاميين العراقيين الشيعة، وربما يشترك من زوايا اخرى مع الفكرة الاسلامية الذائعة بين اتباع وانصار قوى الاسلام السياسي، بشأن اقامة الحكومة الاسلامية (الشرعية) وطبيعة العلاقة معها (ذوبان، تماهي، وحدة، ام دعم ومسندة؟)، ممن لاينتمي إلى جنسيتها ولايرتبط معها برباط المواطنة ولايتمتع بحقوق هذه المواطنة.

هناك لبس وتلبيس كبير في هذا الجدل، سببه عدم تنقيح المناطات الشرعية وفق منظورات حديثة، لم يعد ممكنا معها استحضار رؤى تاريخية ومفاهيم وتصورات اصبحت متقادمة بحكم الواقع، الأمر الذي يحتاج إلى تفكيك المفاهيم والمقولات المستعملة فيه، وتنقيح الاحكام والمواقف المترتبة عليها، ثم الربط المباشر مع المقولات الحديثة عن الوطنية وماينشأ منها من واجبات ومواقف، بل مفاهيم سياسية ذات ارتباط بالعقيدة والهوية المذهبية وصار ضروريا الافصاح عنها.

إن سبب الالتباس في الفهم مع افتراض حسن النية، هو عدم التفكيك بين المقولات العقدية والسياسية التي تتحدث عن وحدة الأمة الاسلامية وبالتالي وحدة المسلمين، وحرمة الفصل والتجزئة بين أقاليم وبلدان هذه الامة، التي يعزى سبب انقسامها إلى القوى الدولية الكافرة والاستعمار ومخططات سايكس بيكو، هكذا بالجملة، دونما التفات إلى أن العالم الاسلامي ومنذ انهيار الدولة العباسية، لم تحكمه حكومة واحدة، ولم تضم دولة اسلامية (بالمعنى الاسلامي -السياسي) اقاليمه المختلفة.

لم أجد حسب متابعاتي المتواضعة، تنظيرا فقهيا وحلولا وخططا لكيفية توحيد اقاليم المسلمين، التي ما عادت أقاليم بالمعنى السياسي، فقد تحولت إلى دول ذات سيادة، وظلت الفكرة متصورة فقط لدى الحركيين الاسلاميين وحلما طوباويا يراودهم، طبقوه عمليا بنشر أجنحة تنظيمية في اغلب المناطق الاسلامية التي وصلها الفكر الاخواني والتحريري ثم السلفي القتالي، مع الاشارة إلى أن هؤلاء جميعا لم يتعاملوا مع الدولة السعودية وحاكمها الملك عبدالعزيز ال سعود، بوصفه حاكما شرعيا ولم ينضووا تحت امرته بمفهوم الطاعة الشرعية والبيعة، رغم انطلاقه من منظور دعوة دينية (السلفية الوهابية)، حيث خضعت له القبائل النجدية والعربية الاخرى التي طالتها ظلال السيوف. 

وظلت الأقاليم المجاورة تنظر إلى مشروع عبدالعزيز بريبة وقلق ومخاوف، بل استعان بعضها (بالكفار) للوقوف ضد طموحه بتوسيع رقعة مملكته خارج أراضي نجد والحجاز والاحساء والبادية الشمالية.

شيعيا كانت الحركة الاسلامية تعيش حلم الدولة الاسلامية متخيلا بلا تنظير واسع، باستثناء ماكتبه المرجع الشهيد الصدر الاول (ت 1980) في اسس الدعوة الاسلامية نهاية خمسينات القرن المنصرم، ثم أضاف اليها بعد عشرين عاما أفكارا جديدة في (لمحته الفقهية التمهيدية لدستور الجمهورية الاسلامية) و(خلافة الانسان وشهادة الانبياء) و(منابع القدرة في الدولة  الاسلامية).

ومثلما اعتمد الحركيون السنة على أحكام مجملة تضمنتها كتب الاحكام السلطانية للماوردي البصري البغدادي (ت 450 هـ) وابي يعلى الفراء الحنبلي ( 458هـ) ولاحقا السياسة الشرعية لابن تيمية (، 728هه)، ظل الحركيون الشيعة يعتمدون على أحكام شرعية عامة ومفاهيم مجملة تنتمي إلى حقبة الدول السلطانية، ولم يتفتق العقل الفقهي عن تنظيرات جديدة إلا بعد أن داهمتهم الثورة الاسلامية في ايران، وقيام الجمهورية الاسلامية بقيادة فقيه كبير هو الإمام روح الله الخميني عام 1979، وصار التعامل مع الدولة الاسلامية الوليدة أمرا واقعا تمليه ضرورات عقائدية، وفقه سياسي مجمل يستبطن الصور المتخيلة للدولة الاسلامية التي يقودها الامام، حيث يتوجب الالتحاق بها والارتباط بحكومته والدفاع عنها، وعن مصالحها وسياساتها، بمسوغ قيادة الفقيه العادل لها نيابة عن الامام المعصوم الغائب، حتى لو تطلب الامر القتال ضد الحكومات التي يحمل الاسلامي الشيعي جنسيتها، فما بالك إذا كانت هذه الحكومات غاصبة وعلمانية وكافرة ومجرمة متعسفة، تعمل ضد مصالح الاسلام والمسلمين كما كان نظام صدام مثالا، هكذا كانت الأدبيات الحركية تعبئ وتثقف وتشرح الموقف المفترض.

وجد الكثير من الاسلاميين الشيعة غير الايرانيين انفسهم في مأزق التعامل مع الدولة الوليدة، هل يتعاملون معها بمنطق الاحكام الشرعية المتعارفة ذات الحمولة العقائدية والكلامية؟ أم بمنطق الأعراف والمفاهيم السياسية الجديدة للتنظيم والقوننة السياسية الحديثة؟ فأنت لا تنتمي إلى ايران بالمواطنة ولا تحمل جنسيتها ولديك مواطنة وجنسية دول اخرى، تلزمك بالزاماتها، وأنت لا ترتبط بعقد سياسي واجتماعي مع دولة الفقيه، ولا يحق لك الانتخاب والاختيار والاعتراض والتمتع بحقوق المواطنة!، فهل أنت ملزم بالطاعة والانقياد والخضوع لأوامر دولة الفقيه؟

وماذا لو تعارضت مصالح وسياسة دولة الفقيه مع مصالح الدولة التي تحمل جنسيتها، وانت المواطن فيها الذي تنطبق عليك القوانين التي تمنع العلاقة الحزبية والفردية خارج ما يسمح به دستور وقانون الدولة.

ماذا لو كان مرجع التقليد الذي وجدته الأعلم بين الفقهاء وقلدته، يفتي بما لا ينسجم مع رؤى وسياسة قائد وفقيه الدولة الحاكم؟

أو على الأقل له رؤية اخرى وملاكات مصلحة  مختلفة؟. 

ماذا لو تعددت الحكومات ذات الشرعية الإسلامية وفق منظورات الفقه السياسي الشيعي، واختلفت إحداها مع الاخرى في تقدير المصلحة والسياسة والتحالفات والعلاقات، بل ماذا اذا اختلفتا في قضايا الجنسية والحدود والمياه والثروات والسيادة والأمن والأولويات؟.

هل يحق لإحداها التدخل في شؤون الثانية بدافع الولاية والمصلحة أو بدافع الامن القومي ومصلحة النظام الاسلامي الأقدم ومنظوراته الستراتيجية غير المتفق  عليها؟.

هذه هذه الاسئلة تتضمن مفاهيم ومقولات التبست على الكثيرين من المتحمسين، وصار الخلط بين العواطف والميول والاتجاهات السياسية، وبين الموقف الشرعي ذي الخلفية الفقهية المنقحة وغير المنقحة أمراً شائعا، يسبب مشكلات ومعضلات سياسية أدت إلى فوات فرص ومصالح، وهدرت طاقات كبيرة، وصار الانقسام فيها وحولها مثار جدل سياسي حاد، يصل حد التخوين والتسقيط كما يقال عاميا، كان اخرها ما طرحه زعيم تيار الحكمة السيد عمار الحكيم بشأن الوطنية الشيعية وقبلها مواقف اخرى كانت هي الاخرى مثار نزاع صامت، لكنه قوي المفعول. 

سنكمل بقية الحديث في الاسبوع القادم بإذن الله.