فيرونيك غرينوود
ترجمة وإعداد: أنيس الصفار
للوهلة الأولى قد تخطئ عينك الضفدع الزجاجي الذي يعيش في غابات كوستاريكا المطريَّة فلا تراه لأنه، كما يوحي اسمه، حيوان شبه شفاف. فجلده وعضلاته وكل ما في جسمه، باستثناء بقعة خضراء على ظهره، يسمح للضوء بالمرور من خلاله. بعد ذلك هنالك أعضاؤه الصغيرة التي تبدو للناظر وكأنها تسبح في محيط هلامي صاف.
الشفافيَّة خاصيَّة مفيدة للكائنات التي تبغي تجنب المفترسات، لكنها نادرة الحدوث في الحيوانات التي تعيش على اليابسة؛ لأنَّ أجسامها تمتلئ بموادّ لا تسمح بمرور الضوء، وكثيرٌ من هذه المواد أساسيَّة لاستمرار
الحياة.
أما الضفدع الزجاجي فقد نجحَ كما يبدو في تطوير نسخٍ شفافة من هذه الأجزاء التشريحيَّة، كما امتلك علاوة على ذلك خدعاً خاصة أخرى لإخفاء الأجزاء ذات اللون الثابت الدائم الذي لا يمكن تغييره حين يكون منكشفاً للكائنات الصيّادة.
في دراسة نشرتها مجلة "ساينس" في أواخر شهر كانون الثاني الماضي اكتشف باحثون أنَّ الضفدع الزجاجي حين ينام تنسحب جميع خلايا دمه الحمراء تقريباً الى الكبد وتتجمع هناك.
تبقى الخلايا مختبئة في ذلك العضو فتتيح للضفدع أنْ يكتسب خفاءً شبه تامٍ أثناء إخلاده للراحة.
الكشف عن هذا التكيف الطبيعي المدهش يمكن أنْ يوفر أدلَّة حول كيفيَّة منع تكون الخثرات الدمويَّة القاتلة.
يعتمد الضفدع الزجاجي في حياته، مثله مثل الإنسان، على الهيموغلوبين وهو بروتينٌ ملونٌ تحتويه خلايا الدم الحمراء يقوم بإيصال الأوكسجين الى مختلف أنحاء الجسم.
أنفق "جيسي ديليا" و"كارلوس تابوادا"، وهما متخصصان في علم البايولوجي ومؤلفا الدراسة الجديدة، وقتاً طويلاً في دراسة الضفادع قبل أنْ يتنبها الى حقيقة أنَّ خلايا دمها الحمراء تبدو وكأنها تختفي أحياناً لفترة من الزمن ثم تعود.
يقول الدكتور ديليا: "عندما تكون الضفادع في حالة صحو يكون جهاز الدوران لديها أحمر اللون، ولكنه لا يعود كذلك حين تنام".
فأين تذهب خلايا الدم الحمراء؟
لحل لغز اختفاء الخلايا الحمراء قرر الباحثان وزملاؤهما أنْ يلتقطوا صوراً للضفادع وهي تحت التخدير - حين تكون الخلايا الحمراء مرئيَّة بوضوحٍ أثناء دورانها في أنحاء الجسم - ثم عندما تكون نائمة حين لا تعود الخلايا ظاهرة للعيان.
لهذه الغاية كانوا بحاجة الى طريقة تتيح لهم النظر داخل أعضاء الضفدع، التي تكتسي هي أيضاً بمظهرٍ أشبه بالمرآة كي تساعد الضفدع على الامتزاج بالبيئة.
يقول الدكتور تابوادا إنَّه كانت لديه تصورات مسبقة بأنَّ الدم عند توقفه عن الدوران سوف ينسحب الى أعضاءٍ مختلفة.
انتهى الأمر بالباحثين الى اعتماد الصوت بدلاً من الضوء لتفحص ما الذي تحتويه تلك الأعضاء، إذ حفزوا الجزيئات داخل الخلايا على إطلاق موجات فوق صوتيَّة يمكن استخدامها للتعرف على المحتوى
الداخلي.
حالما قارنوا ما بين الصور خلال فترتي نوم الضفدع وخضوعه للتخدير برز أمامهم فارقٌ كبير.
يقول الدكتور تابوادا إنَّ جميع الإشارات كانت تنبعث من الكبد، إذ تكشف أنَّ ما يقارب 89 بالمئة من خلايا الدم الحمراء قد تجمعت وتراصَّت في ذلك العضو.
يمضي الدكتور فيقول إنها مسألة منطقيَّة؛ لأنَّ الكبد هو العضو الذي يتولى ترشيح الدم وتصفيته، لذا من المنطقي أنْ يكون الوجهة التي تتوجه إليها خلايا الدم الحمراء.
الأمر الأغرب الذي لا يزال الباحثون يحاولون فهمه هو كيف استطاعت الضفادع أنْ ترصَّ كل تلك الخلايا مع بعضها دون حدوث خثرة دمويَّة تودي بحياتها.
فحين تتكدس خلايا الدم وتتصادم مع بعضها يؤدي الأمر في معظم الفقريات الى حدوث تخثر، والخثرة المتولدة يمكن أنْ تنتهي بأحد أمرين: فإما أنْ تكوّن قشرة خارجيَّة (في حالة الجروح) لتعزل الجرح عن محيطه، أو أنْ تكون خثرة داخل الأوعية الدمويَّة فتؤدي الى حدوث انسدادات وتجلطات في جهاز الدوران، وفي هذه الحالة تؤدي الى موت الكائن.
وفي الولايات المتحدة يتوفى نحو 100 ألف شخصٍ سنوياً جراء الجلطات الدمويَّة.
توحي الدراسة الجديدة بأنَّ الضفادع الزجاجيَّة تستطيع التحكم في متى يتخثر الدم.
فإذا ما أصيبت بجرحٍ سوف تتكون خثرة قشريَّة خارجيَّة بالطريقة المعتادة، ولكنْ عندما تكون نائمة فإنَّ خلايا الدم الحمراء تتراص وتتكدس جنباً الى جنب في الكبد مع منع تكوين خثرة.
نخرج من هذا الاكتشاف بأنَّ الضفادع الزجاجيَّة ربما يكون عندها سرٌّ نتعلمه حول كيفيَّة منع تكون الخثرة والجلطات داخل أجسامنا نحن أيضاً.
وإذا ما نجحت البحوث المستقبليَّة في إلقاء الضوء على ما يبقي الضفادع بمأمنٍ من خطر الجلطة فقد يقودنا ذلك الى ابتكار علاجاتٍ تقلل من حالات الوفاة بسبب الجلطات لدى الإنسان أيضاً.
يقول الباحثون إنَّ السؤال الذي تثيره نتائج الدراسة ويتطلب إجابة سريعة هو: إذا كانت 89 بالمئة من الخلايا الحاملة للأوكسجين ستبقى محتجزة داخل الكبد أثناء نوم الضفدع، فكيف يبقى بإمكانه
التنفس؟
يطرح الباحثون احتمال أنْ تكون لدى الضفدع قدرة على تحويل عمليات الأيض لديه الى طورٍ لا يتطلب إلا أدنى الحدود من الأوكسجين، وربما يكون ذلك شيئاً مقارباً لما تفعله سائر الضفادع عندما تسبت في الشتاء.
هذا البحث الجديد ليس سوى البداية لخطٍ جديدٍ مقبلٍ من الدراسات والأبحاث.
عن صحيفة {نيويورك تايمز}