العزلة بوصفها رؤية فلسفيّة

ريبورتاج 2023/02/28
...

    البصرة: صفاء ذياب

يمكن قراءة حياة الأدباء مثلما نقرأ حياة الناس عموماً، اختلافات في التوجهات والميول والقدرة على مواجهة المجتمع أو الهروب منه، هذه التقسيمات وغيرها هي التي دفعت الكثير من الناس للعيش بأنماط تختلف عن الآخرين بشكل أو بآخر.

الأمر نفسه ينطبق على الأدباء والفنانين الذي يعيشون حياة تختلف، عمّا يعيشه الآخرون بسبب ما يعانونه من اختلافات نفسية مرتبطة بالإبداع والتحولات، التي تطرأ على نفسيتهم بأشكال عدة، وهو ما يدرسه علم نفس الإبداع. 


ففي الأدب العربي عموماً، ولاسيّما العراقي، عُرف أدباء انعزلوا بعيداً، ورفضوا النشر أو إصدار كتاب خاص بأعمالهم في حياتهم، ربّما من أشهرهم محمود البريكان، في حين هناك أدباء نشرت أعمالهم من دون أن يكون لهم أي تواجد في الوسط الأدبي كأشخاص لهم كيانهم المادي، بل ظلوا أسماء غير مرتبطين بواقعهم الحياتي، فكيف نفهم تأثير العزلة في حياة الأديب؟ وتأثير أدباء العزلة على الأدب

عموماً؟


 نشاز الجمهور

يفتتح الكاتب والصحفي علي حسين حديثه بكلام الشاعر المكسيكي «أوكتافيو باث» الذي يقول:»إن العزلة ليست إحساس الإنسان بوحدته ومعرفته بها، وانفصاله عن العالم واغترابه عن ذاته، وهي ليست خاصية استثنائية للشعراء والأدباء، فالناس كلّهم في لحظات معينة يشعرون بالعزلة». ويذهب باث إلى أكثر من ذلك حين يقول: «الناس كلّهم في عزلة، إن الحياة هي انفصال عمَّا كنّاه، لكي نلج إلى ما سوف نصيره». ولهذا نجد أن الشاعر والأديب يجد مبرّرات لعزلته، فالكثير منهم يؤكّد أنه يبحث عن إيقاعه الخاص، حتى لا تسيطر عليه الإيقاعات الأخرى كما كتب القاص والمسرحي جليل القيسي ردّاً على سؤال: ماذا تعني العزلة له؟ فالعزلة كما أكد عليها محمود البريكان في الحوار الذي أجراه معه الشاعر الراحل حسين عبد اللطيف هي أحد الدوافع للكتابة، ولكن هذا لا يعني عدم اهتمام الشاعر بما يجري في الواقع، فهو يراقب ما يحيط به مع محاولة لتحويل العزلة إلى همٍّ فلسفي وفكري، فالعزلة هنا توفر الفرصة للشاعر للمشاركة في الفعل أي بمعنى الخلق الأدبي.

ويضيف حسين شكّلت فكرة العزلة مركز الفكر الفلسفي لكثير من فلاسفة القرن العشرين، وقد رأت حنَّا أرندت أن العزلة تمكّن الشاعر من تأمّل أفعاله وتطوّر وعيه، وتجعله يهرب من نشاز الجمهور، وينصت إلى نفسه جيّداً، وهذا ما فعله محمود البريكان حين اختار العزلة ليحوّلها إلى قصائد تنبض بالفكر والهم الإنساني.

 

الانفراد طريقاً

ويرى الدكتور سعيد الجعفر أن طبيعة المبدع تنطوي على كونه يحتاج إلى أن يختلي بنفسه، كي لا يكون الصخب وبشاعة الوجود البشري سبباً في الانقضاض على هارمونية رؤاه. فترى الكثير من المبدعين اختاروا العزلة مبتعدين عن صخب المدينة ومجتمعها، الذي يعتوره توحش رأسمال وضجيج التكنولوجيا بمختلف صوره. على الرغم من ذلك، فالعزلة ليست جديدة على المبدع، فقد اعتزل الناس المفكّرون والشعراء والأدباء منذ عصور موغلة في القدم. فقد قال الإمام علي «يأتي على الناس زمان تكون العافية فيه في عشرة أجزاء، تسعة في اعتزال الناس وواحدة في الصمت». وقد عاش النفّري جُلَّ حياته في الصحراء، ليترك لنا المواقف والمخاطبات، كما أُطلق على المعري رهين المحبسين، بمعنى أنهما العمى والحياة. وأحد الأمثلة على العزلة هي حياة عبقري عصر العقل العربي، أبي حيّان التوحيدي الذي آثر في سنيّه المتأخّرة الانعزال والاحتجاج على بشاعة عصره، فأحرق مؤلفاته. الأمثلة على انعزال المبدعين والمفكرين في عصرنا كثيرة، أهمها عزلة نيتشه وتولستوي وأميل سيوران وهمنغواي وفان كوخ. لقد أفرد الناقد وعالم النفس الانكليزي أنطوني ستور عملاً حول العزلة عنوانه «العزلة: عودة إلى الذات» بدأه بعبارة لإدوارد جيبون تقول «الحديث يعني الفهم، لكنَّ الانفراد هو مدرسة العبقرية، واتساق العمل الفني يمنحنا لمسة لفنان متفرد». خلاصة الموضوع هي أن المبدع لا خيار له سوى العزلة، فهي تبعده عن ضجيج الواقع وبشاعة الحياة.


 سطوع العزلة

ويرى الشاعر والكاتب المسرحي عبدالرزاق الربيعي أن الكتابة مهنة التوحّد والعزلة، هذا ما قاله لورانس كلارك، ويميل معظم الأدباء والكتّاب والشعراء بشكل عام إلى العزلة، فالكتب «بنت الظلام والصمت» كما يرى مــارسيل بروست «وليست بنت الثرثرة اليومية والنهارات العادية»، وعندما اعتزل المفكّر الفرنسي ميشال دي مونتاني الناس وكان في الـ 38 من عمره لم يجد بديلاً مناسباً سوى مكتبته، فلجأ إليها وحين سألوه عن ذلك قال، «ليس ثمّة أجمل من القراءة لزيادة معرفتنا، ولانتشال أرواحنا من الظلمة». وكان المفكّر الراحل مدني صالح يرفض الظهور في الحوارات التلفزيونية، وحاول الكثيرون محاورته، ومن بينهم الإعلامية أمل حسين، وكانت في قمّة شهرتها في الثمانينيات، وكذلك الدكتور مجيد السامرائي، لكنّ الشاعر أصرّ على رفضه، حبّاً في التواري عن الأنظار، والاكتفاء بنشر الكتب والمقالات في الصحف والمجلات، والحوارات الصحفية، وكان الشاعر الراحل حسب الشيخ جعفر يشبهه كذلك، إذ يسمّي المقابلات التلفزيونية «الجحيم التلفازي»، ويؤكّد المقرّبون من الشاعر محمود درويش أنه كان ميّالاً للعزلة، لذا عاش سنواته الأخيرة وحيداً.

مضيفاً وينصح علماء النفس الممثلين بعدم الظهور في الأسواق والانخراط بالحياة العامة، لأنَّ هذا الظهور يمتص من حلمية صورهم وقوة تأثيرهم عندما يؤدون أدوارهم، على المسارح وفي الأفلام والمسلسلات، ليعيشوا في أحلام الجمهور وخيالهم، وكأنّهم خارج الواقع، وعلى مسافة قريبة من هذا يأتي العزوف عن الطباعة، فالتواري عن الأنظار له سطوع أكبر في أحيان كثيرة، ويبقى أفق التوقّع أعلى بكثير من الواقع، ومن هنا، فالبعض صنع أسطورته الشخصية والشعرية من خلال تواريه وليس من خلال ظهوره، بينما يحرق البعض نفسه بكثرة الظهور والنشر.


 معرفة الرؤية

ويطرح الناقد أسامة غانم فكرة الكاتب سعيد كرامي الذي نشر في جريدة عكاظ مقالاً تحت عنوان «سؤال حيّر النقّاد: لماذا يتجه الأدباء للانعزال؟»، يتساءل فيه برغم أن هنالك أدباء مبدعين، لكنّهم اختاروا العزلة، وبرغم أن كرامي لا يتفق مع اعتزال الأديب، ولكنّه يتفق مع ما جاء به الفيلسوف غاستون باشلار: «يعتقد الإنسان المنعزل، أنه يعيش مجد وجوده وحيداً، وأنَّ بمقدوره أن يعبّر عن ماهية العزلة، ولكن لكلِّ واحد عزلته، والحالم بالعزلة لا يمكنه أن يمنحنا سوى بضع صفحات من هذا الألبوم المضيء والغامض للعزلات الإنسانية».

وهنالك أسئلة كثيرة تطرح على الكاتب والقارئ في اللحظة ذاتها، كيف يؤثّر الكاتب ويتأثّر؟ لمن يكتب الكاتب؟ ومن هو الذي سوف يقرأ كتابته؟ وهل عزلة الكاتب تعدُّ من ضمن إبداعه أو بالعكس؟.

ويجيب غانم على هذه التساؤلات، مبيناً أنه برغم أن هناك نظرية تدّعي أن تميّز الكاتب يبدأ من عزلته للمجتمع إذ يظنُّ البعض أن الحكمة تولد في الصمت، وأنَّ الأفكار تتدفّق والمخيّلة تنشط في العزلة، وأنَّ ذلك سمة مهمة في الإبداع. وهذا يذكّرنا بعزلة الأديب الأميركي سالنجر على شاطئ مدينة صغيرة تدعى «هامشير الجديدة»، بينما يختلف رأي آرنست همنغواي تماماً، إذ يقول: «أنا لا أعرف إلا ما رأيته، وإن الحقيقي مصنوع من المعرفة زائداً التجربة والخمر والخبز والزيت والملح والله والنساء ورائحة العشب والجلد».

 

طقوس ذاتية

ويختتم الكاتب بلاسم الضاحي قائلاً: «لا شك أن الأديب كيان منتج بحاجة إلى تمويل، بمعنى أن لديه بضاعة تحتاج إلى تسويق يؤدّي إلى مردودات مالية لصالح هذا الأديب، وبسبب كساد سوق الكتاب وضعف آلية ترويجه ومردوده المالي، أُجبر الأديب على العزوف عن طبع وإصدار ما ينتجه وذهب به إلى أن يجعل ممارسة الكتابة طقساً ذاتياً وانشغاله بكسب قوته اليومي خارج منظومة اهتماماته الكتابية لعدم جدواها».

ويصنّف الضاحي الأدباء إلى صنفين، الأول أدباء انعزلوا بعيداً ورفضوا النشر، أو إصدار كتاب خاص بأعمالهم في حياتهم بسبب عصاميّتهم، وبسبب ضغوطات الحياة الاقتصادية وضغوطات أخرى تمارس ضدَّ الأديب المبدع الملتزم، تجبره على الانزواء عن الأضواء الكاشفة والتحاقه للمساهمة في حركة المشهد الثقافي العراقي، من هذه الضغوطات تجاهل استحقاقه من النقد والدراسة للقائمين عليها، وشمول غيره ممّن لا يستحق هذا الاهتمام نتيجة لهيمنة الشللية والإخوانيات والتكتلات التي لا قدرة للأديب الملتزم على اختراقها، فيضطر للانزواء، فضلاً عن أسباب أخرى لم يستطع ممارستها أسوةً بغيره، القادر على تسويق نفسه على أنه أديب قبل منتجه الأدبي لإيمان الكاتب الملتزم بما يكتب، فضلاً عن وجود متنفذين سلبيين يقفون على رأس هرم إدارة المنتوج الثقافي وتوجيهه وتسويقه، لا قدرة لهم في التعامل مع النصوص الجيّدة والمتميزة.

والصنف الثاني أدباء نشرت أعمالهم، من دون أن يكون لهم أيّة قيمة إبداعية أو فنية في الوسط الأدبي من الباحثين عن النجومية الكاذبة والساعين إليها بكلِّ قوّة، أسست لهم جهات متنفذة إدارياً قاعدة مهيمنة أوجدتها أيديولوجيا مبرمجة، وجعلتهم رؤوس هرم لمنافذ تسويق من يشاؤون من أسماء تفرضها، وفرض عليها توفير سبل الدعاية لصالح خلق نجومية مسيئة للثقافة في باطنها داعمة للثقافة في ظاهرها، ووفرت منافذ لاستقبال هذا الصنف من المدعين زيفاً وترويج بضاعتهم، وأسماء لا تمتلك أدنى مستوى من الموهبة وجعلهم نجوماً تحظى بحضور في المهرجانات والملتقيات الأدبية.

 هذه الأسباب وغيرها حرمت المشهد الإبداعي العراقي، من ظهور أسماء مبدعة كثيرة على الساحة ومن أن يتسيّد المبدع العراقي الحقيقي المشهد الإبداعي ويسمو به.