حرب البالونات
عبدالله حميد العتابي
عاشت العلاقات الأميركية الصينية ازمة حادة وتراشق اتهامات في الأيام القليلة الماضية بسبب البالون الصيني، وبدأت تكهنات من قبيل هل بدأت الحرب الباردة بأزمة البالون الصيني الضال؟ ولفهم أوسع للموضوع لا بد أن نتساءل ما هي البالونات؟ ما التأصيل التاريخي لاستخدامها لأغراض التجسس؟ كيف تعاملت الولايات المتحدة مع البالون (الضال)؟ ما ردود الافعال الصينية تجاه الاتهامات الأميركية؟.
الإجابة عن تلك الاسئلة هو محور مقالتنا: البالونات أجسام ضخمة بحجم ثلاث حافلات مدرسية، وعادة ما تطير على ارتفاع من 15 إلى 23 ميلا فوق سطح الأرض.
وهذا أعلى بكثير من الارتفاع الذي تحلق فيه الطائرات المدنية، التي نادرا ما تطير فوق العشرة اميال.
ولهذا فإن ارتفاع البالونات أقل بكثير من الأقمار الصناعية، التي عادة ما تدور حول الأرض على مسافة تتراوح بين 125 و370 ميلا.
ومن الجدير بالذكر، أن البالون الصيني الذي تمَّ إسقاطه كان على ارتفاع ما يقرب 11 ميلا.
تعد هذه البالونات وسيلة استطلاع غير مكلفة وعملية ويمكنها استكشاف مناطق كبيرة في نطاقات أقرب وبدقة أعلى من الأقمار الصناعية.
تمَّ بالفعل استخدام البالونات المجهزة بالرادارات والكاميرات للتجسس من قبل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سابقا خلال الحرب الباردة.
ويعود أول استخدام مسجل للبالونات لأغراض عسكرية إلى عام 1794، اذ استخدمت اللجنة الفرنسية للسلامة العامة البالونات كجزء من المراقبة العسكرية، وقد جرت أول تجربة مراقبة جوية خلال معركة فلوروس ضد البريطانيين والألمان والهولنديين، والتي انتصرت فيها فرنسا.. واستمر استخدام البالونات في أن يكون جزءًا لا يتجزأ من الجيش الفرنسي، حتى تمَّ حلّه بعد أربع سنوات.. حتى جاءت الولايات المتحدة - في نهاية المطاف - لتضع البالونات كأداة تجسس مفيدة، واستخدمتها خلال الحرب الأهلية الأميركية، بعد ستين عامًا تقريبًا.
ويمكن القول إن البالونات العسكرية التي تم نشرها خلال هذه الحرب الأهلية وصلت إلى ارتفاع ألف قدم.. ويرجع ظهورها الأول في الولايات المتحدة إلى ثاديوس لوي، وهو عالم ومخترع، كان معروفًا، بحلول عام 1850، ببناء البالونات، وقد قرر الرئيس الأميركي، أبراهام لنكولن، استخدامها عام 1861، وعلى الرغم من أن الجنود الكونفيدراليين حاولوا إسقاط بالوناته، إلا أنهم لم ينجحوا.. في الواقع، لم يتم تدمير أي من بالونات لوي العسكرية السبعة أثناء القتال، واخترع لوي أيضًا مولد غاز الهيدروجين المحمول، حتى لا تعتمد بالوناته على الغاز التقليدي في المدن.
خلال الحرب العالمية الأولى، استخدمت البالونات للتجسس على قوات العدو.. وكانت فعَّالة، لدرجة أنها أصبحت هدفًا رئيسيًا للقوات الجوية في الدول المتحاربة.. وكجزء من المجهود الحربي، ركز العلماء والمهندسون بعض طاقتهم على تطوير تكنولوجيا البالونات العسكرية، حتى تكون أكبر وأكثر قوة.. وأصبحت البالونات، التي تم تطويرها قبل الحرب العالمية الأولى، قابلة للطيران على ارتفاعات متوسطة، تتراوح بين 1200 و1800 متر، وكانت تعمل بمحركات وموجهة بمراوح، وفقا لتقارير من المتحف الوطني والنصب التذكاري للحرب العالمية الأولى.. وعلى عكس البالونات الأخرى التي تحركها الرياح، كانت البالونات القابلة للنفخ مزودة بمحركات، وكانت إحدى مزايا هذا النوع من البالونات أنه بسبب حجمها الكبير فقد تحركت ببطء، مما يعني أنه يمكن أن يبقى في مكان واحد «برًا أو بحرًا» لفترة طويلة.. كما يمكن أن تحمل طاقمًا من الأشخاص ومدفعا رشاشا وأطنانا من القنابل.
شهدت الحرب العالمية الثانية صعود بالونات «وابل».. كبيرة ولكنها عادة أصغر من البالونات التي سبقتها، مربوطة بالأرض بكابل يستخدم كإجراء مضاد للطائرات.. وكانت تعد بشكل عام دفاعية بطبيعتها وتستخدم لمواجهة وابل طائرات العدو المُغيرة.. وقد أجبرت هذه البالونات طائرات العدو على التحليق على مستويات أعلى، مما جعل هجمات القصف منخفضة المستوى وأقل فاعلية.. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن بالونات الوابل يمكن أن يصل ارتفاعها إلى 14,764 قدم، وأحيانًا تحتوي على عبوات متفجرة متصلة بالكابلات، والتي يمكن أن تدمر طائرات العدو.. ولكن مع قرب نهاية الحرب، أصبحت هذه البالونات أهدافًا للقاذفات الألمانية على ارتفاعات عالية، وبالتالي صارت أقل فاعلية.
وبقيت البالونات في الخدمة بعد الحرب العالمية الثانية، إذ كان لدى الولايات المتحدة سلسلة من برامج البالونات، في وقت مبكر من الحرب الباردة، والتي كانت تهدف إلى محاولة إلقاء نظرة خاطفة خلف الستار الحديدي في الاتحاد السوفييتي، استخدمت الولايات المتحدة البالونات للتجسس على الكتلة السوفيتية، بدءًا من عام 1953، فيما كان يسمى مشروع «موبي ديك».. وكان ذلك مقدمة لمشروع عام 1956، أول برنامج استخباراتي للمنطاد على ارتفاعات عالية تابع للقوات الجوية الأمريكية، مشروع جنتركس الذي طورته مؤسسة «راند»، على حد تعبير وزارة الخارجية الأمريكية، تم استخدام البالونات «كوسيلة للتغلب على نقص الاستخبارات الفوتوغرافية والأرصاد الجوية على الكتلة الأرضية للكتلة السوفيتية».
في حين أن البالونات بعيدة كل البعد عن الشكل الأكثر سرية للاستخبارات، إلا أنها لا تزال جزءًا من معظم جهود المراقبة الحكومية الرئيسية- على الأقل في بعض الصفات - وقد استخدمتها القوات الأميركية في الحرب في أفغانستان، ولا تزال جزءًا من العمليات العسكرية حتى اليوم.
قد يكون هذا السياق التاريخي مهماً في تناول أحد جوانب قصة البالون الصيني الطائر فوق الولايات المتحدة، الذي أسقطته مقاتلات أميركية في 4 شباط الجاري (2023) قبالة سواحل كارولينا الجنوبية.
فمن اللافت بالنسبة لواشنطن الإعلان عن وجود البالون فوق ولاية مونتانا حيث موقع قاعدة بيلينجز النووية التي تضم أيضاً قاعدة "مالمستروم" الجوية، رغم مراقبة رحلة البالون قبل ذلك.
كما أدلي بعض المسئولين الأمريكيين لوسائل الإعلام بأن البالون ربما توقف في هذه المحطة أكثر من غيرها.
وفى المقابل، من اللافت بالنسبة للصين أنها مصرة على تأكيد أن البالون مدني ويستخدم في عمليات الرصد الجوي، وتمَّ فقدان السيطرة عليه.
حيال ذلك، اتهمت الصين، الولايات المتحدة بأنها تقف وراء تحليق ما يزيد عن 10 بالونات "بشكل غير قانوني" على ارتفاعات عالية في مجالها الجوي، منذ كانون الثاني عام 2022.
وصرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، وانغ وين بين، في مؤتمر صحفي، في 12 شباط الماضي، أنه "من الشائع أن تدخل البالونات الأميركية بشكل غير قانوني المجال الجوي لدول أخرى" ويأتي هذا الاتهام الذي وجهته بكين للولايات المتحدة، بعد أقل من يوم على إعلان الصين أنها تستعد لإسقاط جسم مجهول كان يحلق بالقرب من ساحلها
الشرقي.
وقال وانغ: "منذ العام الماضي وحده، عبرت المناطيد الأميركية على ارتفاعات عالية بشكل غير قانوني المجال الجوي الصيني أكثر من عشر مرات دون موافقة السلطات الصينية ذات
الاختصاص".
وبقى ان نتساءل هل اسقاط البالون الصيني بداية حرب بالونات بين الولايات المتحدة والصين؟.