نرمين المفتي
تعمل الدول التي لديها خطط متوسطة وبعيدة المدى على الاحتفاظ بالكفاءات الوظيفية في مختلف المجالات، التي لا بدّ من تواجدها لتنفيذ هذه الخطط على اكمل وجه، خاصة أن البعض منها تحتاج، فضلا عن الكفاءات، إلى خبرات متراكمة تعرف كيف تصل إلى حلول للمشكلات، التي قد تواجه تنفيذ الخطط من جهة وتدريب المتعينين الجدد على اساليب العمل المنتج. ولهذا الهدف، تعمل هذه الدول إلى رفع سن التقاعد للاستفادة القصوى من الكفاءات والخبرات.
اما في العراق، فلا وجود لهكذا خطط تقريبا وبالتالي لا تفكير بالخبرات المتراكمة. مثل النار في الهشيم، تشارك الكثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي (مشروع قانون) مع الوسم (الهاشتاغ)، الذي استخدمته عنواناً لهذا المقال ولهذا السبب لم أصحح كلمة (مبارك)، وأضاف بعضهم مقدمة اشار فيها إلى انصاف الذين ظُلموا وأُحيلوا على التقاعد المبكر، وبعضهم كتب الكثير من المديح للذي انتبه اخيرا لما لحق بهؤلاء من ظلم وقرر إنصافهم. وبدأ (مشروع القانون) بهذه الفقرة «بناء على ما أقره مجلس النواب وصادق عليه رئيس الجمهورية استنادا إلى أحكام البند (اولا) من المادة (61) والبند (ثالثا) من المادة (73) من الدستور»!، ولم يكلف الذين تشاركوه انفسهم عناء البحث عن نص هاتين المادتين. فالمادة (61) بفقرتيها خاصة بحل مجلس النواب والمادة (73) بفقراتها الخمس خاصة بتشكيل مجلس الوزراء بعد الانتخابات! وفي (مشروع القانون) مواد (دغدغت) مشاعر الذين وجدوا انفسهم وبدون اي سابق انذار خارج الوظيفة قبل ثلاث سنوات من التاريخ القانوني لتقاعدهم، وخسروا مستحقات مالية واصبحوا تحت عبء مصاعب يومية، لم يكونوا قد استعدوا لها، فقط لأن ممثلي الشعب أرادوا ارسال اشارة إلى المتظاهرين في ساحة التحرير وغيرها من الساحات في 2019، بأنهم وجدوا للخريجين العاطلين عن العمل، فرص تعيين. لم يفكروا بنفسية الذين تفاجؤوا بمكافأة غير متوقعة ازاء الخدمات التي قدموها للبلد، ولم يفكروا بالخبرات المتراكمة التي ستفقدها المؤسسات، خاصة المالية والهندسية والصحية والتربوية، فالأهم لديهم أنفسهم واستمرارهم.. وهكذا، أُحيل اكثر من 200 الف موظف وموظفة بين ليلة وضحاها إلى التقاعد، وواجه أكثرهم مصاعب اقتصادية يومية، بسبب تأخر استلام مستحقاتهم بذريعة أن عدد معاملات التقاعد كبير جدا.. وأعود إلى (مشروع القانون)، الذي أفرح الكثيرين ليومين أو ثلاثة فقط ومع نشر التوجيهات الخاصة لرعاية المتقاعدين ولم يجدوا فيها فقرة بالعودة إلى سن التقاعد ما قبل تعديل قانون التقاعد في كانون الاول 2019 وفوضوا امرهم إلى الله سبحانه مرة اخرى، خاصة أن ابناء الذين أُحيلوا إلى التقاعد المبكر لم يتعينوا حينها كما أوضح التعديل
وقتئذ.
إنَّ الشهادة الجامعية ليست أساس نجاح المؤسسات العامة وان كانت مهمة، فالأهم في الخبرة المتراكمة التي فقدتها هذه المؤسسات والتي لا تزال تعاني مما حدث.
في العراق، لا توجد خطط لاستيعاب الخريجين أو العاطلين عن العمل مهما كانت مستويات دراساتهم، إلا في التعيين في المؤسسات العامة، برغم مطالباتنا الكثيرة بضرورة التفكير في حلول اخرى ومن بينها القطاع الخاص الذي لا تستنزف رواتب العاملين فيها الموازنات السنوية.. ولكن من يسمع؟ ولا بأس من الاشارة إلى تجربة صينية لرعاية المتقاعدين، ففي الوهلة الأولى وأنا في طريقي من المطار إلى الفندق في بكين، أدهشني اللون الاخضر الممتد على مدِّ البصر. أشجار وزهور وثيّل، متنزهات وحدائق كثيرة ونساء ورجال كبار في العمر يهتمون بها، وعند سؤالي عن سبب كبر عمر هؤلاء العاملين والعاملات، كان الجواب أكثر دهشة: إنهم متقاعدون. فهناك ومع تسلّم هوية التقاعد يتم تحويل اسمه، مهما كان المنصب الذي شغله – صغيراً أو كبيراً، إلى دائرة البلدية القريبة من محل سكنه، ويستطيع في اليوم التالي العمل في المتنزه القريب إليه، وإن كان في منطقة ما متقاعدون قريبون بعضهم إلى البعض، يتم إنشاء حديقة صغيرة جديدة في الحي ليعملوا فيها، ويأخذ العاملون في الحدائق راتباً إضافياً إلى راتبهم التقاعدي يتراوح بين 25 إلى 65 % من الراتب التقاعدي، حسب الدرجات الوظيفية، وصاحب الراتب التقاعدي الأقل يتسلم النسبة الأكبر، والكل يعملون. وهدف هذه الخطوة هو منح فرصة للمتقاعد للخروج من البيت والابتعاد عن الإصابة بالكآبة والأمراض والمشاكل وإيجاد مصدر رزق إضافي له، وفي الوقت نفسه منح المدن جمالاً وبيئة
نظيفة.