جوان جمال
منذ انطلاق حملة وزارة الداخلية لمحاربة المحتوى الهابط والناس في جدل واضح، بين من يؤيد هذه الحملة ويجد فيها الحل الأمثل للحد من صناعة التفاهة المتفشية في مواقع التواصل الاجتماعي، وبين من يعدها تتناقض مع حرية التعبير التي كفلها الدستور العراقي، كونها تستند إلى فقرات قانونية تمَّ تشريعها قبل أكثر من عقود، إضافة إلى صدور أحكام بالسجن والغرامة ضد أشخاص بعضهم حصل على تعاطف المجتمع.
اذ تراوحت العقوبات بحق أصحاب المحتوى الهابط بين ستة أشهر وسنتين، استنادا إلى فقرات من قانون العقوبات المعدل رقم 111 لعام 1969، في حين بلغت الشكاوى التي وردت إلى منصة بلغ التي أطلقتها وزارة الداخلية أكثر من 100 ألف شكوى.أي بمعنى صارت السجون العراقية تستقبل نساءً ورجالا، ليس بسبب ارتكابهم جرائم القتل والسرقة وجرائم مخالفة القانون، إنما بسبب ما ينشرون على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولأول مرة في العراق تحولت مواقع التواصل الاجتماعي من مصدر لتحقيق الربح المالي لمشاهير السوشيل ميديا (أصحاب المحتوى الهابط) إلى كابوس ربما يؤدي بهم إلى السجن. لكن لماذا هذه الحملة؟ ولماذا هذه الإجراءات العقابية وبهذه الصورة غير المتوقعة؟ وبعض الذين شملتهم العقوبات أشخاص بسطاء لا يميزون بين المحتوى الرصين والهابط. تقول الداخلية العراقية حسب تصريح اللواء سعد معن إلى وكالة الانباء العراقية «إن الحالات المطروحة ضمن الحملة هي حالات تستوجب المعالجة، وإن اللجنة ستستمر بالعمل ضمن موافقات ورؤية قضائية وتحليل للمحتوى وتحديد إنْ كان يتنافى مع الأخلاق».
اما الناشطون والمدافعون عن حرية التعبير فانهم يتهمون الحملة بأنها تكميم للأفواه ومخالفة للدستور، كونها جاءت بصورة مفاجئة دون سابق انذار ولا تستند إلى أسس قانونية.
فمن اين بدأت القصة، أكيد القصة بدأت من انتشار الهواتف الذكية وغياب الرقابة وضعف مستوى الفضائيات العراقية، وندرة المحتوى الرصين، فمواقع التواصل خاصة «الفيسبوك وتويتر والتيك توك والانستغرام ويوتيوب» حولت كل من يستخدمها إلى صحفي يتمكن من إيصال صوته إلى الناس، ووضعت بيد الجميع إمكانية البث والنشر وتحقيق الشهرة بسرعة قياسية من قبل بسطاء يقومون بحركات تبدو للناس أنها عفوية، لكنها تمنح أصحابها نجومية سريعة لا يتمكن من تحقيقها الصحفي والكاتب الرصين، الذي يعمل على اعداد نفسه لسنوات ويمارس المهنة لسنوات طويلة..
فالفرق أن النشر الإعلامي والصحفي الرصين يتطلب مهارات وامكانيات ودراسة وخبرة طويلة لا يمكن أن تتحقق بسهولة، وبالنتيجة لا يحقق الشهرة والا النجومية ولا المكسب المادي، بينما النشر على مواقع التواصل الاجتماعي لا يتطلب أي مؤهل سوى ثمن الموبايل والذي شجع الأشخاص البسطاء لخوض مجال الشهرة والبحث عن (الطشة)، من خلال أي حركة أو كلمة تثير اهتمام المتابعين، ولا يتحقق ذلك الا بالمحتوى الهابط الذي اصبح الوصفة السحرية لجمع اللايكات والحصول على ملايين المتابعين، وهو الامر الذي لايمكن ان يتحقق مع الاعلام التقليدي. إن واقع الحال في مواقع التواصل الاجتماعي يقول إن المحتوى الهابط اكتسح المحتوى الرصين.
عليه فإن محاربة المحتوى الهابط لا تقوم على تجريم أصحابه، بل تتحقق بدعم المحتوى الرصين والرفع من مستوى الذوق العام الذي يتأثر بالبيئة الإعلامية المحيطة والاهتمام بصناعة الاعلام في العراق، الذي يتجه أحيانا هو الآخر إلى صناعة محتوى هابط.
لا بدَّ من دراسة أسباب صعود المحتوى الهابط ورواجه بين الناس، ولا بدَّ من معرفة سبب تراجع وندرة المحتوى الإبداعي الرصين في مواقع التواصل الاجتماعي العراقية، بعيدا عن السجن والغرامة والمطاردة والملاحقة القانونية والعقوبات، التي ربما تكون مجحفة بحق بعض الشباب والشابات الباحثين عن فرصة لتحقيق ذواتهم، ووجدوا في مواقع التواصل ضالتهم، وكذلك فإنها ربما تجبر البعض من صناع هذا المحتوى إلى مغادرة العراق واستمرار صناعة التفاهة من الخارج بعيدا عن الملاحقة القانونية.
فمحاربة المحتوى الهابط هي مسؤولية تضامنية، يشترك فيها الجميع من خلال مقاطعة صناع التفاهة، وهي العقوبة الأكثر جدوى والأكثر تأثيرا، فعقاب المجتمع في هذه الحالة أقوى وأنجح من عقاب القانون.