هوامش عن اتفاق بكين

آراء 2023/03/15
...




 ساطع راجي

في البلدين المتواجهين على ضفتي الخليج القلق منذ عشرات السنين، قوى اجتماعية ودينية متطرفة ذات علاقات معقدة بالمؤسسات الحاكمة، ففي كل من إيران والسعودية تتواجد خلافات داخل مؤسسات الحكم نفسها إلى حد التوزع بين فرق متطرفة، يمينا ويسارا، ومعتدلة بدرجات، وهذه الفرق تتناوب في ادوارها داخل مؤسسة الحكم، والمتطرفون المتمسكون بمواصلة النزاع أقوياء في الدولتين، اللتين مارست مؤسساتهما الاعلامية والثقافية والسياسية عملية تعبئة ضخمة في التحريض ضد بعضهما البعض

لأن الاتفاق الذي رعته الصين بين السعودية وإيران كان بتوقيع قائدين أمنيين كبيرين، هما مساعد بن محمد العيبان مستشار الأمن الوطني السعودي، وعلي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمـــــن القـــومـي الايراني، سيبقى الشك دائرا حول الغاطس من الاتفاق رغم نشر النص الرسمي له، فكل المشكلات والازمات بين البلدين ذات طابع أمني من الدرجة الحمراء، وهكذا فإن الوصول إلى أبعاد وتطبيقات الاتفاق سيكون صعبا، والأمر رهن مراقبة التطورات في العلاقة بين الجانبين، وكل ما يقال عن الاتفاق حاليا، إنما هو يتعلق بهوامش الاتفاق، اي عودة العلاقات الدبلوماسية، وهي على أهميتها إلا أنها وجه واحد من ألف وجه ووجه للأزمة.

لقيَّ الاتفاق السعودي الايراني ترحيبا عالميا، باستثناء موقف إسرائيل، وهذا الترحيب يكشف عن رغبة عامة بالتخلص من ملف يسبب الصداع دوليا، ويبدو في كثير من وجوهه وجذوره غير مفهوم، نظرا لتداخل العقائدي التاريخي بما هو سياسي راهن، لكن الموقف العالمي ليس بأهمية مواقف وتصرفات قوى أخرى، وتحديدا فريق العقائديين في البلدين وفريق المنتفعين من الصراع الطويل، باعتبارهم أدوات وآلات «سينقطع رزقها».

في البلدين المتواجهين على ضفتي الخليج القلق منذ عشرات السنين، قوى اجتماعية ودينية متطرفة ذات علاقات معقدة بالمؤسسات الحاكمة، ففي كل من إيران والسعودية تتواجد خلافات داخل مؤسسات الحكم نفسها إلى حد التوزع بين فرق متطرفة، يمينا ويسارا، ومعتدلة بدرجات، وهذه الفرق تتناوب في ادوارها داخل مؤسسة الحكم، والمتطرفون المتمسكون بمواصلة النزاع أقوياء في الدولتين، اللتين مارست مؤسساتهما الاعلامية والثقافية والسياسية عملية تعبئة ضخمة في التحريض ضد بعضهما البعض، وآثار هذه التعبئة لن تختفي بين ليلة وضحاها، ولن تتمكن الأجهزة الأمنية من إطفاء الجمر، الذي أشعلته طوال سنوات بسرعة، ولذلك فإن رسوخ الاتفاق بين طهران والرياض سيمكن اكتشافه عندما يتعرض لهزة من جهة متطرفة في أي من البلدين.

كما تتجه الأنظار إلى أكثر من جبهة ساخنة تتأثر بالخلافات السعودية الايرانية، خاصة اليمن، لمعرفة شمولية اتفاق بكين وتداعياته على المنطقة، فيما إذا سيكون بوابة لمرحلة من الهدوء والسلام أم هو مجرد مفصل في منظومة المصالحة الصينية المتسعة، فالاتفاق الذي جاء بعد جولات تفاوض استمرت لعامين تقريبا وكان للعراق وسلطنة عمان أدوار مهمة في التهيئة لها والحفاظ على تواصلها رغم الازمات، لكن الاتفاق تمَّ في العاصمة الصينية بكين وتحت خفقات العلم الاحمر الشيوعي، وقد نسمع مستقبلا من يتحدث عن مسار تفاوضي كانت تديره بكين بين طهران والرياض، بعيدا عن مساري بغداد ومسقط، مسار تحركه رغبة صينية ملحة في تحقيق التواصل لمصالحها بين ضفتي الخليج، وهي مصالح تأكدت في القمة الخليجية الصينية، التي عقدت في أواخر العام الماضي وظهرت كتحول مهم في مسار التحالفات الدولية، وروّج كثيرون أن الخليجيين نقلوا مصالحهم (جزئيا على الاقل) من واشنطن إلى بكين، وأن الصينيين نقلوا مصالحهم من الضفة الايرانية إلى الضفة العربية من الخليج، وهو ما تبين بطلانه، وأكد اتفاق بكين أن السياسة المعاصرة أكثر تعقيدا، وأن مسارات توريد السلع والبضائع تؤثر في السياسة الخارجية للأنظمة أكثر أحيانا من تأثير العقائد على أهميتها في إدارة الشعوب، وأن المصالح تجمد كثيرا من الشعارات والمشاعر، لأن الدول تواجه أزمات خانقة تهدد بقاءها ككيانات متماسكة وتهدد حياة سكانها اليومية بعدما تضعضعت سلاسل توريد الطاقة والغذاء، وتتعرض طرق التجارة للخطر، بينما تنفلت الأسلحة الصغيرة الجديدة المدمرة من السيطرة وتتعرض كل أسرار الدول للإختراق والقرصنة.

ومع أهمية اتفاق بكين يبقى من الضروري عدم المبالغة ورفع سقف التوقعات بشأن انعكاسه على ملفات المنطقة بالمجمل، ففي العراق وسوريا واليمن ولبنان وبدرجة أقل البحرين وغيرها من مناطق التأثر، تواجه الحكومات والقوى السياسية والمجتمعات مشكلات حقيقية واستحقاقات تاريخية وتحديات وجودية، عليها الاجابة عنها والتعامل معها بوضوح في ما يتعلق بالديمقراطية ودور المؤسسات الدينية وحقوق الانسان والسلاح الحزبي والعشائرية والمؤسسات الفاسدة، وتطبيق القانون وإيقاف نهب الثروات العامة والموقع في العلاقات الدولية وصلابة ونزاهة مؤسسات الحكم الشرعية.