الصفقة السعودية الإيرانية قلبت دبلوماسية الشرق الأوسط وتحدَّت أميركا
بيتر بيكر
ترجمة: أنيس الصفار
أخيراً تحقق في الشرق الأوسط اتفاق سلام بشكل من الأشكال، لا بين إسرائيل والعرب بل بين السعودية وإيران اللتين كانتا مُمسكتين بتلابيب بعضهما طيلة عقود. كذلك لم تكن الولايات المتحدة هي الوسيط في الصفقة بل الصين.
قلبت هذه التطورات الأمور رأساً على عقب كأبلغ ما يمكن أن يتصور أحد .. كان تحوّلاً جعل الرؤوس في عواصم العالم تُصاب بالدُوار. تحالفات وعداوات كانت تتحكم بالدبلوماسية منذ أجيال انقلبت فجأة .. ولو إلى حين.
على مدى ثلاثة أرباع قرن مضت كان الأميركيون هم اللاعبون الفاعلون المركزيون في منطقة الشرق الأوسط، كانوا حاضرين دائماً كلما وحيثما وقع الحدث، لكنهم في لحظة التغير الكبير وجدوا أنفسهم على الهامش. أما الصينيون، الذين اكتفوا على مدى السنوات بلعب دور ثانوي في المنطقة، فقد تحولوا فجأة إلى لاعبين أقوياء جدد في حين يتساءل الإسرائيليون، الذين كانوا يداهنون السعوديين ويستَعْدونهم على الخصم المشترك في طهران، في عجب إلى أين سينتهي بهم هذا كله؟.
تقول "أمي هوثورن" نائبة مدير الأبحاث في مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط: "إنها صفقة كبيرة ولا سبيل لإنكار ذلك ... الولايات المتحدة ما كان بوسعها التوسُّط في مثل هذه الصفقة حالياً، وبالذات مع إيران نظراً لانقطاع العلاقات بينهما. ولكن إنجاز الصين بالمنظور الأوسع قد وثب بها إلى تحالف جديد دبلوماسياً طغى على كل ما تمكنت الولايات المتحدة من تحقيقه في المنطقة منذ أن تولى بايدن منصبه".
في العلن رحّب البيت الأبيض بعودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران ولم يفصح عن أي إحساس بالقلق من الدور الذي لعبته بكين في التقريب بين الاثنين، ولكن مساعدي بايدن يشيرون سراً إلى أن الاختراق قد أعطي أكثر من حجمه ويسخرون من التلميحات التي تُوحي بتقهقر النفوذ الأميركي وانحساره عن المنطقة.
من غير الواضح بعد، كما يقول محللون مستقلون، إلى أي مدى ستمضي عملية المصالحة السعودية الإيرانية على أرض الواقع. فبعد عقود من التنافس، الذي بلغ حدود العنف أحياناً، على قيادة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي الأوسع، يأتي القرار بإعادة فتح السفارتين في البلدين اللتين بقيتا مغلقتين منذ العام 2016 بمثابة خطوة أولى.
هذا لا يعني أن الرياض السنِّيَّة وطهران الشيعيَّة قد نحَّتا كل خلافاتهما العميقة جانباً. بل إن من الممكن واقعاً تصور أن هذه الاتفاقية الجديدة لتبادل السفراء قد لا يكتمل تنفيذها إلى نهايتها نظراً لأن التنفيذ أُعطي جدولاً زمنياً حذراً أمده شهران لاستكمال التفاصيل.
البند الأساسي في الاتفاق، كما أخبر السعوديون الأميركيين، هو التزام إيران بمنع وقوع مزيد من الهجمات على السعودية وتقليص دعمها للجماعات المتشددة التي كانت تستهدف المملكة. ذلك أن إيران والسعودية كانتا من الناحية الفعلية تخوضان في اليمن حرباً مدمِّرة بالوكالة قاتل فيها الثوار الحوثيون المتحالفون مع طهران القوات السعودية طيلة ثماني سنوات. في السنة الماضية نجحت هدنة ساعدت في إحلالها الأمم المتحدة وإدارة بايدن في وقف العمليات العدائية إلى حدِّ كبير.
قدَّرت الأمم المتحدة في مطلع العام الماضي أن أكثر من 377 ألف شخص قد قضوا نحبهم في تلك الحرب بسبب العنف أو المجاعة أو المرض. في الوقت نفسه أطلق الحوثيون مئات الصواريخ والطائرات المسيَّرة المسلحة على السعودية.
كانت السعودية تسعى منذ سنوات إلى تعليق الأعمال العدائية مع إيران، من خلال المحادثات التي عُقِدت في بغداد لأول مرة ولم تُفضِ في النهاية إلى شيء. قال المسؤولون في إدارة بايدن إن السعوديين كانوا يوافونهم بمستجدّات المحادثات التي تدور في بكين، ولكن الأميركيين أبدوا تشكّكهم بشأن وفاء إيران بالتزاماتها الجديدة.
ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي يُعدُّ الحاكم الفعلي للمملكة السعودية المرتبط بعلاقات قوية مع الرئيس "دونالد ترامب" والذي ساعد على تأمين تمويل مقداره ملياري دولار لشركة الاستثمارات التي أسسها "جاريد كوشنر" صهر الرئيس السابق، كان يلعب لعبة دبلوماسية معقَّدة منذ وصول بايدن إلى منصب الرئاسة.
كان الرئيس بايدن قد تعهّد ذات مرة بجعل السعودية دولة "منبوذة" جزاءً لها على وضع ترتيبات اغتيال جمال خاشقجي، وهو كاتب سعودي كان يعيش في الولايات المتحدة وينشر أعمدته في صحيفة "واشنطن بوست"، بيد أنه وافق على مضض على أن يزور المملكة في العام الماضي سعياً منه لخفض أسعار البنزين التي ارتفعت وكان الغزو الروسي لأوكرانيا جزءاً من السبب وراء ذلك.
من اأجل محاولة إصلاح الأوضاع مع السعوديين اضطر بايدن إلى تجرُّع انتقادات لاذعة بسبب تبادله تلك التحية التي ذاع خبرها بقبضات اليد مع ولي العهد، وهو الشخص الذي حددته وكالة الاستخبارات "سي آي أي" باعتباره المسؤول عن جريمة قتل خاشقجي وتقطيع أوصاله.
بيد أنّ بايدن وفريقه استشاطوا غضباً فيما بعد عندما خرق السعوديون، من وجهة نظرهم، الاتفاق غير المعلن الذي توصلوا إليه خلال تلك الزيارة ثم خفّضوا انتاجهم النفطي في الخريف الماضي ليبقى سعر البنزين مرتفعاً. في تلك الواقعة اعتقد المسؤولون الأميركيون أن الأمير محمد كان يقف في صف الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، لذا توعده الرئيس بايدن بعواقب لم يحددها، ثم لم يلبث أن تراجع عنها من دون فرض أيٍّ منها.
الآن ها هو ولي العهد يستدير نحو الصين. يقول "ستيفن أي كوك" الزميل الأقدم في دراسات الشرق الأوسط من مجلس العلاقات الخارجية: "من الواضح أن البعض في الخليج يعتقدون أن هذا القرن هو قرن الصين. لقد عبر السعوديون عن رغبتهم في الانضمام إلى منظمة شانغهاي للتعاون بينما يذهب قسط كبير من نفطهم إلى الصين".
يعقد كوك مقارنة بين المناورة التي قام بها الأمير محمد بن سلمان ونهج الرئيس المصري جمال عبد الناصر خلال فترة الحرب الباردة عندما حاول أن يلعب لعبة وضع الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بمواجهة بعضهما واستغلال الوضع الناجم عن ذلك. يقول كوك: "لم تفلح تلك الحركة كما أمل ناصر، ومن المحتمل أن ترتد بنتائج عكسية أيضاً في حالة محمد بن سلمان".
يقول "دانيال كورتزر"، وهو سفير سابق لدى إسرائيل ومصر ويعمل حالياً في جامعة برنستون،: إن الديناميكيات المتغيرة المتمثلة بالاتفاق الذي توسطت فيه الصين لا تزال تشكل تحدياً لإدارة بايدن في وقت كانت هذه الإدارة فيه تفضِّل الانصراف بتركيزها صوب وجهة أخرى.
يمضي كورتزر قائلاً: "من دلائل حيوية الصين استغلالها هذا النُزر من الغضب السعودي تجاه الولايات المتحدة وحدوث بعض الفراغ هناك. يعكس الأمر أيضاً حقيقة أن السعوديين والإيرانيين كانوا يتحدثون مع بعضهم منذ بعض الوقت وتلك إدانة مؤسفة لسياسة الولايات المتحدة".
قرّبت الصين بين المملكة السعودية وإيران في وقت كانت تأمل فيه إسرائيل أن تقوم الولايات المتحدة بالتقريب بينها هي والسعودية. فبعد نجاحها في إقامة علاقات دبلوماسية مع دولتين خليجيتين أخريين، هما الإمارات العربية المتحدة والبحرين، خلال الأيام الأخيرة من عمر إدارة ترامب فيما أطلقت عليها تسمية "اتفاقيات إبراهام" كانت إسرائيل تتطلّع بنفاد صبر لتحقيق النجاح نفسه مع السعودية أيضاً. تحرك كهذا كان سيؤشر تحولاً جوهرياً في وضع إسرائيل وسط جوارها الذي يناصبها العداء منذ قت طويل، بل إنه كان سيعني فعلياً انتهاء عزلة دامت أجيالاً فرضها عليها العالم العربي.
بيد أنّ السعوديين طالبوا واشنطن بأكثر مما كانت ترغب في إعطائه لهم. فمقابل فتح علاقات رسمية مع إسرائيل طالب السعوديون الولايات المتحدة بضمانات أمنية بالإضافة إلى مساعدتهم في تطوير برنامج نووي مدني وفرض قيود أقل على مبيعات الأسلحة الأميركية لهم.
اعتبر مسؤولو الإدارة تلك الطلبات مبالغاً بها، ولكنهم رأوا فيها فاتحة انفراج يمكن أن تفضي في نهاية المطاف إلى التطبيع. في غضون ذلك ساعد فريق بايدن على تحقيق تقدم بين البلدين، مثل فتح الأجواء السعودية أمام جميع الطائرات المدنية الإسرائيلية.
ساعدت المساعي الدبلوماسية من جانب إدارة بايدن في تهدئة الأعمال العدائية في اليمن، لكنها فشلت في إحياء الاتفاق النووي مع إيران الذي تم التوصل إليه في العام 2015 على يد الرئيس "باراك اوباما" ثم انسحب منه الرئيس ترامب في وقت لاحق. بقيت الدبلوماسية تتعثر على مدى سنتين، وتقول وكالة المراقبة التابعة للأمم المتحدة إن لدى إيران حالياً من اليورانيوم عالي التخصيب ما يكفي لبناء عدة أسلحة نووية إذا ما شاءت ذلك، ولو أنها لم تصل بعد حد استكمال صنع رأس
حربي.
تحت ضغط العقوبات الأميركية التي أثقلت كاهلها تحركت إيران باتجاه تعميق العلاقات مع روسيا ومن بعدها مع الصين الآن. بدأت طهران تزوِّد روسيا بالطائرات المسيرة التي تحتاج إليها بشدّة في حربها مع أوكرانيا، الأمر الذي جعل منها شريكاً مهماً لموسكو بوتين أكثر من أي وقت مضى، ثم بتحوّلها نحو الصين للتوسط مع السعوديين رفعت إيران من ثقل الصين في المنطقة سعياً منها للتحرر من العزلة التي تفرضها عليها واشنطن. أما إسرائيل فقد وقفت تنظر إلى آمالها في بناء تحالف مع المملكة السعودية معاد لإيران وهي تستحيل إلى حطام.
يقول المسؤولون في إدارة بايدن إن إيران تخضع لضغط حقيقي وأنها تعاني من ضائقة اقتصادية عميقة بسبب العقوبات الأميركية. إلا أن هذا لا يعني أن الصين، وهي إحدى الدول الموقعة على الاتفاق النووي الأصلي، تريد لإيران أن تمتلك سلاحاً نووياً. فإن كان لبكين تأثير جديد على طهران يأمل المسؤولون الأميركيون أنها قد تستطيع استغلاله لكبح تطلعات إيران النووية.
رغم هذا يشعر العديد من صناع السياسة الأميركيين المخضرمين بالقلق من رؤية الصين تمارس مثل هذا الدور الكبير في المنطقة عقب سنوات من النجاحات في شق الطرق والمنافذ إليها.
تقول "مارا رودمان" نائبة الرئيس التنفيذي للسياسة في "مركز التقدم الأميركي" والمبعوثة السابقة إلى الشرق الأوسط في عهد الرئيس أوباما: "هذا هو أحدث تذكير لنا بأن المنافسة تأخذ مجراها على نطاق عالمي وأنها لم تعد مقتصرة على منطقة المحيطين الهندي والهادئ بأي حال، كما أنها ليست محصورة فقط بالاقتصاد أو الأمن أو التعاطي الدبلوماسي".
لا تزال في يد الولايات المتحدة أوراق مهمة تلعبها في الشرق الأوسط، إلى جانب العلاقات التجارية والعسكرية والاستخبارية الواسعة مع معظم اللاعبين الأساسيين في المنطقة، فبعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي غدت أميركا اللاعب الخارجي الوحيد المهم في المنطقة. لكن روسيا عادت بقوة في 2015 عندما أرسلت وحدات عسكرية لإنقاذ نظام الرئيس بشار الأسد خلال الحرب الأهلية السورية.
في بحثها عن موارد الطاقة وتحقيق النفوذ خارج آسيا كانت الصين تسعى أيضاً وراء إنشاء قواعد عسكرية خاصة بها في المنطقة، وقرارها بزجِّ نفسها في الخلاف السعودي الإيراني يكشف بوضوح عن أن ثمة لاعباً آخر ينبغي أخذه في الحساب.
يقول كورتزر: "أعتقد أن هذا يعكس الكيفية التي صار بها شركاء الولايات المتحدة يميلون في علاقاتهم المتنامية مع الصين. هل يعد هذا تهديداً مباشراً للولايات المتحدة؟ تلك مسألة قابلة للنقاش، لكن ما لا ريب فيه هو أن النظام الإقليمي بدأ يتغير".
•عن صحيفة "نيويورك تايمز"