سناء الوادي
من دائرة الظلّ طويلاً إلى الظهور العلني، ومن إنكار الكرملين الذي استمر لسنوات لأي صلة به بات، ومنذ الخريف الفائت يدعمه بالسلاح والمال وعلى مرأى من المجتمع الدولي “يفغيني بريغوجين”، الذي يصنّف نفسه صاحباً لشركة حراسة أمنية وهذا النوع من الشركات معتادٌ وجودها في روسيا بخاصةٍ عقب انهيار الاتحاد السوفياتي وما رافقه من انتشار المافيات وتدهور الأوضاع الأمنية لتقتصر على تقديم خدمات الحماية في المناطق المتوترة، وتزايد الاهتمام بها في المجتمع الستراتيجي الروسي بعد عام 2000م وتسجيل أكثر من عشرين شركة عسكرية لكنها لا تتمتع بأي وضع قانوني وهو ما كان موضوعاً لنقاش منتظم للنخب فمنها ما استخدم في تأمين حركة السفن التجارية في خليج عدن وما استخدم أيضاً لإزالة الألغام في ليبيا والبلقان، بيدَ أنه عند الحديث عن مجموعة فاغنر، فالأمر يختلف كليّاً فهي قد شاركت سابقاً في عمليات قتالية مساندة للانفصاليين في مولدوفا وجورجيا وشبه جزيرة القرم وكذلك في سوريا للقتال إلى جانب الجيش السوري ضد المسلحين في الشمال الشرقي وبالطبع كان ذلك بالنيابة عن الجيش الروسي النظامي كقوات بديلة أو رديفة له، فهذه الميليشيا حسب تقارير غربية قد تدربت في قاعدة مولكينو التابعة للأمن الروسي وقد تسلّحت بما فاض من الجيش، وقد كان الرئيس فلاديمير بوتين على الدوام ينفي أي صلة له بهذه المجموعة فهي تضم أفراداً مرتزقة يخدمون مقابل المال، ناهيك عن كونها لديها مصالح مرتبطة باستخراج الطاقة موارد كالذهب والأحجار الكريمة كاستثمار الكروم من مدغشقر الإفريقية، ولربما يندرج ذلك تحت إبعاد الكرملين عن تبرير تورطه ببعض العمليات القتالية وتحمل التكاليف المترتبة عنها.
معارك سوليدار حامية الوطيس في أيلول الماضي كان لها دور رئيس في تسليط الضوء الإعلامي على فاغنر وقائدها بريغوجين فنجاح عناصر المجموعة في الاستيلاء عليها ومن ثمَّ ما تشهده الآن مدينة باخموت من سيطرة شبه كاملة لقوات فاغنر على المدينة، تزامناً مع تعثّر المقاتلين الروس في أوكرانيا وضعفهم في حرب الشوارع المستمرة منذ عام وحتى الآن وهو ما تفوق به عناصر فاغنر، كيف لا؟ وقد وُصفوا بالشراسة وانعدام المعايير الأخلاقية فجلّ أفرادها من المساجين والمحكومين بالإعدام “إنهم قتلة محترفون وليسوا مجرد هواة”، البعض أطلق عليها مجموعة بوتين سيئة السمعة، التي يستخدمها لتنفيذ أجندات روسية بعيداً عن أعين المجتمع الدولي.
تصدّر يفغيني بريغوجين في الأشهر الأخيرة محركات البحث ونال اهتمام العامة من الشعب الروسي وغيرهم حتى أن تصريحاته النارية تجاه وزير الدفاع الروسي وقائد العمليات في أوكرانيا أثارت الكثير من التكهنات حول طموح هذا الرجل بشغل مكاناً بين النخبة السياسية في موسكو، فعدد إطلالاته المتزايد يرسخه كشخصية عامة، فلم يكتسب أي لاعب غير رسمي من قبل هذا القدر من الأهمية، وقد ذكر موقع ميدوزا الإخباري المستقل الناطق بالروسية أن بريغوجين يخطط لإطلاق حركة وطنية محافظة، من شأنها أن تصبح حزباً سياسياً ومن المتوقع أن يخوض مجال النزعة القومية الشعبوية التي تشهد صراعات منذ وفاة زعيم الحزب الديموقراطي الليبيرالي فلاديمير جيرينوفسكي في العام الفائت، هذه الشريحة قد تكون واعدة للغاية في مرحلة ما بعد بوتين، فمن الجدير بالذكر أن هذا الحزب يشغل 56 مقعداً في مجلس الدوما.
الرئيس بوتين بقي متكتماً على مدى التقاطع بين فاغنر والدولة الروسية، ولكن تبعاً لمقربين من الدائرة الضيقة له، فهو لا يريد تدمير مؤسسة مهمة مثل الجيش، بغض النظر عن أدائها السيئ، وزيادة نفوذ الشركات الأمنية الخاصة داخل روسيا، وسرّب مصدر مقرب من وزارة الدفاع احتفاظ إدارة بوتين بحملة تشويه ضد فاغنر جاهزة للانطلاق عند اللزوم، وفعلاً تم توجيه الإعلام الرسمي منذ أيام بعدم الاستشهاد بتصريحات فريغوجين بشأن مواضيع غير محايدة، ناهيك عن رفض الحكومة منح يفغيني الحق في تجنيد المدانين بعما طلب مؤخراً ذلك متذرعاً بأن العمليات العسكرية الأخيرة قلصت عدد عناصره.
إن الحاجة الحالية لمجموعة فاغنر ونجاحاتها للتنفيس عن الاستياء الشعبي من جهة، ولتمهيد الطريق أمام القوات النظامية وحسم معركة أوكرانيا لا يثني القيصر عن السيطرة على شخصياته السياسية بقوة واللعب على خلافات النخب لديه بدهاء فائق، فعندما يحين الوقت سيسحب من يريد من رقعة الشطرنج الروسية.