ابراهيم العبادي
في صيف عام 2002 ضمتني والسيد سامي العسكري ندوة جماهيرية في العاصمة الدانمركية كوبنهاكن، كان عنوانها اشكالية الهوية العراقية، بحضور واسع من جمهور ينتمي اكثره إلى التيار الاسلامي، لم ندخر وسعا في نقد الخطابات الأيديولوجية التي كانت تسوق في العراق ومسؤوليتها عن ضياع الهوية الوطنية العراقية، تاريخيا كانت الانظمة السياسية العراقية تمارس غواية الصياغة السلطوية القسرية للهوية العراقية الوطنية بضغط انتماءاتها الأيديولوجية.
أو توجهاتها المذهبية والفكرية وأحلامها الطوباوية، اتفقنا في حصيلة الحوار والنقاشات التي دارت على أن الأيديولوجيات الثلاث (القومية، الماركسية، الاسلامية)، التي تصارعت في العراق ساهمت مساهمة كبيرة في تقزيم مفهوم الهوية الوطنية العراقية، وخلقت من المشكلات ما عطل مسار بناء الأمة و الدولة، لأنها قسمت العراقيين وشوهت وعيهم وأفكارهم، ولم توفر لهم (رأسمالا اجتماعيا - سياسيا ) واحدا يدور حول مبدأ المصلحة المشتركة وتوابعها واستحقاقاتها، كونها الاصل الذي يجمع الناس في الوطن ودولة الوطن.
كان ضياع مصالح العراق بين اتجاهات أيديولوجية وصيرورته حقلا لتقاطع الأفكار والسياسات والمصالح، الملمح الابرز في حقبة الجمهورية المُعسكرة بين أعوام 1958 - 2003، وقتها كان العراقيون يجتّرون آلامهم وبؤسهم ويدفعون أثمانا باهظة في حياتهم اليومية، فقد تصارعوا بقسوة بسبب التضارب العميق في التوجهات والأهداف المتعارضة، وحقيقة الأمر أن هذا التصارع في العراق وعلى العراق كان يخفي في باطنه (قلق الهوية) واضطراب بوصلة المصالح، ما أوجد حالة شك راسخة في السلوك السياسي، فما بين عراقي شيعي يعاني البؤس والاضطهاد ولا يجد حماية من أشقائه في المنطقة، بسبب مخاوف طائفية وحسابات سياسية قديمة غرقت فيها الشعوب والانظمة إلى اذنيها، إلى عراقي كردي يرى أن عذاباته، لن تنتهي الا بحلم الدولة القومية الكردية، إلى عراقي عربي سني يربط بين تشبثه بسلطته وبين توسيع دائرة انتمائه القومي والمذهبي لحماية هذه السلطة، ليغدو العراق مجرد قطر من الاقطار ومساحة لتدخلات الجوار، يتقرر مصيره بأيدي أخوانه وأشقائه قادة المشروع القومي أو الديني !!! وفقا لمفهوم الحاضنة القومية والمذهبية وبدون حساب لمصالح وتوجهات ورغبات وطموحات العراقيين شديدي التنوع القومي والمذهبي والديني.
سقط نظام البعث القومي عام 2003، وكان على العراقيين ان يفيقوا من الغيبوبة الأيديولوجية، ويواجهوا سؤالا جوهريا يستخلص كل المجادلات السياسية والفكرية السابقة، أي عراق يريدون وبأي صيغة وعقد ونظام سياسي؟ العراق القومي العروبي، الذي تتخيله وتمجده الادبيات القومية رغم اخفاقها في الاجابة على اسئلة ممنوعة واستفهامات ممنوعة؟ أم العراق الليبرالي، الذي جاءت تبشر به الولايات المتحدة ومعها الغرب، مدفوعة بفكرة تجريب زراعة نموذج سياسي وفق رؤى ومستخلصات غربية خالصة ومتعجلة، تريد انتزاع العراق من تاريخه المضطرب الحافل بصراعات المذاهب والاديان والثقافات والحضارات والدول والاحزاب المنتمية لها؟
ام العراق التاريخي بتنوعه وتعدده وتنافر رأسماله الاجتماعي والرمزي؟. لم يكن جواب العراقيين سوى اصداء لذلك الاضطراب المفاهيمي المتعارض، بسبب اختلاف المرجعيات الفكرية والسياسية، اذ اتفقت كلمة جيران العراق على اختلاف مصالحهم وتوجهاتهم على منع استقرار الدولة العراقية، وفق صياغة جديدة تغادر مألوف المنطقة وانقساماتها وتراثها الصراعي.
ايران الإسلامية وسوريا العروبية وحلفهما المقاوم للمشروع الأميركي اختاروا مقاومة هذا المشروع في العراق، قبل ان ينجح ليبراليا ويتحول إلى قاعدة تشع خطرا على منطقة متخمة بالمشاريع الأيديولوجية، التي هيمنت عليها فكرة الصواب والخلاص. فصار القطب الشيعي الذي تقوده ايران يعمل ليل نهار لإحراج الأميركان وإخراجهم من العراق حماية للامن الاسلامي والمشروع المقاوم!.
جيران العراق الآخرون خشيوا من عدوى الديمقراطية والليبرالية التي تبشر بها امريكا في مواجهة قلاع الاستبداد، فصار همهم الوحيد اجهاض هذا المشروع بإحراق العراق في فوضى الصراع الطائفي والمذهبي، حتى لا يصير حديقة امامية لحلف المقاومة، فقد اجمع الفرقاء على أن هوية الحكم في العراق سنية وزوالها يعني صعود الشيعة، والانطباع السائد عن شيعة العراق أن هواهم مقاوم دائما ومشاريعهم الفكرية تعبر الحدود وتخيف المختلف؟!
وجدت كل جبهة من هذه الجبهات وكلاء ومتحمسين وهواة نضال ومشاريع (استشهاد)، وبيئة عراقية منقسمة وتوجهات متخاصمة ورؤى متقاطعة قصيرة النظر، كلّها تفكر باقتناص اللحظة والفرصة، اما مصير العراق - الدولة، عراق الفرص الضائعة والموارد المهدورة، فليس موضع اكتراث إلا لدى فئة عراقية كانت تدرك أن الآخرين يريدون العراق ساحة صراع لمصالحهم وأفكارهم، وليس مهما هوية العراقي الوطنية ولا معاشه المهدد ولا دمه المهدور أو أمنه المستلب ورفاهه المسروق، المهم أن يعيش العراقي مقاتلا مقداما شجاعا، يحارب تارة الغرب المتصهين المادي الشاذ وربيبته اسرائيل، ويقاتل أخرى من اجل نموذج إسلامي صاف متخيل تقوده السلفية الجهادية وتسعى(لا راحة)، العرب والمسلمين من كفر! الحضارة المعاصرة، بتأسيس دولة الخلافة النقية وعلى شرط منهاج النبوة ولو بقتل نصف العراقيين؟.
اين مصلحة العراقيين في كل هذه الاندفاعات يمينا وشمالا؟ يتساءل كثيرون هل من العقل والدين والثقافة أن ينخرط العراقي بلا تروٍ ولاحسابات عميقة في أي مشروع بخفة لا تدانيها خفة الخوارج المشهورة تاريخيا؟. وكيف ساهمت هذه الاندفاعات في تشكيل صورة العراقي خارجيا؟.
يتذكر الجميع كيف أطلق الرئيس المصري حسني مبارك عام 2004، اتهامه الشهير لشيعة العراق بأن ولاءهم لايران وليس للعراق، ما تسبب بعاصفة استنكار شيعية عارمة، لكن هذه الوصمة التي تريد انتزاع وطنية العراقيين نجحت في وخز الضمير العراقي، وزادت من منسوب الكراهية.