فارس حامد عبد الكريم
حينما تحررت فرنسا من سيطرة النازية وعاد زعيم المقاومة الوطنية الفرنسية الجنرال ديگول إلى فرنسا، توطدت علاقته بالفيلسوف والروائي الشهير أندريه مالرو، الحائز على جائزة گونكور عن روايته الشهيرة (الوضع البشري)، وكلفه بمهام ثقافية وإعلامية عديدة وحاز على ثقته.
وعندما بدأ ديگول بتشكيل حكومته بموجب دستور الجمهورية الخامسة في 4 أكتوبر 1958 عرض على مالرو تولي إحدى الوزارات السيادية المهمة تقديراً لدوره الفكري البارز في مواجهة الفكر النازي والاستعمار بشكل عام والمساهمة في بناء اساس فكري للمقاومة الوطنية، ولكن مالرو رفض تولي هذه الوزارة السيادية وطلب تولي وزارة الثقافة، قائلاً، وسط اندهاش الجنرال من هذا الاختيار؛ (لقد اصبح عقل فرنسا بيدي).
لم يكن الأديب مالرو منتمياً لجماعة سياسية معينة بالذات وقتها ولكنه كان مفكراً انسانياً، رافضاً أن تكون دولته دولة استعمارية ودعا منذ مطلع شبابه إلى تحرير الشعوب الرازحة تحت نير الاستعمار الفرنسي وسجن بسبب ذلك، كما كان وطنياً نموذجياً بحق ومقاوماً شرساً للنازية، وكان كل هذا كافيا لوحده ليمكنه من تحقيق اكبر نقلة في تاريخ الثقافة الفرنسية الحديثة وكسب حب وثقة الجمهور.
هذا الحس الوطني المرهف وثقافته المتنوعة، التي تمثل بحق نموذجاً لثقافة القرن العشرين هو الذي مكن مالرو من إعادة بناء وعي المواطن الفرنسي وتخليصه من إفرازات الحرب النفسية والاجتماعية وثقافة الحرب، التي تراكمت خلال الحرب العالمية وفترة الإحتلال النازي، وما رافقها من مذلة ومهانة مست الكرامة الوطنية في الصميم.
لقد صرف مالرو بسخاء بالغ على المشاريع الثقافية والأدبية والفنية، وازدهرت المسارح والعروض الفنية والسينمائية والترفيهية وطبعت وأعيدت طباعة المئات من عناوين الكتب والروايات وترجمت لمختلف اللغات.
حتى بدأ الفرنسيون يشعرون وكأنهم عادوا ليعيشوا في عصر النهضة من جديد بكل تفاصيله التاريخية.
وتصدرت فرنسا المشهد الثقافي العالمي وأضحت الثقافة مصدراً مهماً من مصادر قوتها، فلُقبت بعاصمة النور.
يكفي أن تقدم مصالح شعبك العليا على مصالحك الذاتية الضيقة، لتكون وطنياً بحق وتحقق اعظم الإنجازات في كل المجالات...
*النائب الأسبق لرئيس هيئة النزاهة الاتحادية