د.عبد الخالق حسن
في إحدى المرات، ظهر أمامي وأنا أتصفح موقع فيسبوك، إعلان يعلن فيه صاحبه عن عرضٍ غريب. كان العرض يخصُّ بيعَ مدرسة أهلية، بكل ما فيها من مدير ومعلمين وتلاميذ. كان العرض مضحكاً في الظاهر. لكنك حين تتمعن فيه، ستجد أنه يثير الحزن والشجن. إذ كيف استمرأ صاحبُ المدرسة، الذي كان من المؤكد يعمل بعقلية تاجر، على أن ينشر مثل هذا العرض الذي لا يحترم قيمة المدرسة، ولا معناها، ولا يجد في نفسه غضاضة من أن يجعل المعلم والتلميذ مجرد سلعةٍ يتربح منها.
هذا الإعلان هو خير دليل على الفوضى والارتجال والانحدار الذي بلغناه. فوضى في القوانين الناظمة، ولا أبالية ولا خضوع لمعايير التعليم العالمية. صار أمراً معتاداً أن تجد في زاوية كل شارعٍ بيتاً كبيراً، أو بيتين مدمجين، قد تحولا إلى شيء اسمه مدرسةً بالاسم. كيف تجرَّأنا وصرنا نعترف لهذه البيوت بأفضليتها على المدارس الحكومية، التي مهما كان مقدار السوء فيها، لكنَّها تظل معنوياً أرفعَ شأناً، وأعلى مقاماً من الكيانات التي ينحشر فيها التلاميذ كالمسجونين، ويتجاوز أصحابها في الأعم الأغلب على الأرصفة لتوسيع فضاء ربحهم من دون أي محاسبة أو متابعة من الجهات المسؤولة عن الخدمات العامة!.
والأشنع والأنكى، هو حالات الاستغلال البشعة التي يتعرض لها الذين يقدمون على هذه المدارس من الخريجين، الذين يبحثون عن التعيينات بدافع الحاجة إلى فرصة عمل تعوضهم عن سنوات دراستهم، وتوفر لهم الحد الأدنى من متطلبات المعيشة. تُعلنُ هذه السجون المسماة مجازاً (مدارس) عن حاجتها إلى ملاكات تعليمية. يتقدَّم إليها العشرات من طالبي فرصة التعيين. ثم بعد مقابلات واختبارات، يختارون صفوةً منهم للتعيين. لكن مقابل ماذا؟. إنه مقابل يبتزُّ حاجةَ المتقدمين للتعيين، ويجبرهم على القبول بما يقدَّم لهم من مرتب لايكاد يكفي لأسبوع. أعرف بعض المدارس الأهلية لا يزيد مرتب المعلِّم فيها على ٣٠٠ ألف دينار شهرياً. وبعد اقتطاع مبلغ الضمان، يتبقى لهم منه ٢٥٠ ألف دينار شهرياً. تخيلوا الكارثة. شخص يعمل لمدة خمسة أيام في الأسبوع، في مهنة هي من أقدس المهن وأهمها، لكنَّه يُمنح هذا المبلغ الزهيد الذي يتم صرف نصفه على أجور النقل، ومتطلبات الأكل التي لا بد من توفرها أثناء الدوام.
أمر مخجلٌ ومشينٌ، يتطلب تدخلاً من وزارة التربية، ووزارة العمل، والجهات المسؤولة، من أجل إنصاف المعلمين والموظفين في المدارس الأهلية، وإنقاذهم من ابتزاز مالكي هذه المدارس، الذين لا يهمهم سوى ملء جيوبهم بالإموال على حساب كرامة المعلمين والموظفين.
حسناً فعلت وزارة التربية، حين أوقفت في آخر قراراتها منح إجازات لفتح مدارس أهلية جديدة. ولكن المهم هو أن تتحرك الوزارة لمتابعة شؤون المعلمين والموظفين في هذه المدارس، والوقوف على مشكلاتهم واحتياجاتهم. والأهم هو إلزام أصحاب المدارس بمنح المعلمين والموظفين مرتبات محترمة، تحفظ كرامتهم، وتليق بمقامهم. فليس هناك مقام يداني مقام المعلم.
إنَّ أنظمة التعليم في أغلب بلدان العالم تعتمد، بلا شك، على القطاعين العام والخاص في الاستثمار بها. وما نكتبه هنا لا يعني بطبيعة الحال دعوة لسحب يد القطاع الخاص من ممارسة دوره التنافسي في تقديم عروض تعليمية ينافس بها القطاع الحكومي. لكن لا بدَّ من إخضاع القطاع الخاص إلى معايير واجبة الالتزام، تجعل من العملية التعليمية مستوفية للشروط التي تكفل مخرجات ناجحة. ولا يتحقق هذا إلَّا بالاهتمام والرعاية الحقيقية للعاملين في قطاع التربية التعليمي الأهلي، سواء كانوا معلمين أو موظفين. ونقترح هنا إمَّا أن يتم تطبيق قانون الحد الأدنى المجزي من الأجور، بحسب مقررات وزارة العمل، أو أن يوضع سلَّم رواتب خاص بالمعلمين في التعليم الأهلي.
لذلك، صار لزاماً على وز ارة التربية، ومعها بطبيعة الحال، نقابة المعلمين، التحرك نحو المدارس الأهلية من أجل إيقاف ما يتعرض له المعلمون في أغلبها من ضغط نفسي قاهر، بسبب شعورهم بالغبن واضطرارهم، تحت إلحاح الحاجة إلى القبول بممارسة التعليم في مدارس قد تعرضهم في يوم ما للبيع، مثلما فعل صاحب الإعلان الذي افتتحنا به المكتوب
هنا.