نرمين المفتي
الشوارع شرايين المدينة، اية مدينة، تكون زاهية ونشطة ولا تعاني الانسداد حين تكون المدينة بكامل صحتها، التي تتلخص بالنظام وتطبيق القوانين والنظافة والساحات الخضراء والنصب والجداريات والمحافظة على التراث وعمارتها المميزة. وفي بغداد، شوارع رئيسية كانت ولا تزال شرايينها التي بدت عليها عوارض المرض مع الحروب واصبحت تعاني منها في سنوات الحصار وصارت واضحة للعيان بعد عشرين سنة عن الغزو.. هذه السنوات العشرون كيف يختصرها شارع السعدون؟
تصف الموسوعات (شارع السعدون) بأنه كان الشارع الأكثر أناقة ورفاهية، ليس في بغداد، انما في كل العراق وربما في فترة ما في المنطقة كلها.
لأكتب هذا المقال، مررت بهذا الشارع، الذي راقبت تغييراته أو امراضه على مدى السنوات الماضية، سيرا وليس بالسيارة.
ويمتد الشارع، جغرافيا، من ساحة التحرير في الباب الشرقي حتى ساحة الفتح في الكرادة، لكننا نعرفه أنه محصور بين ساحتين: التحرير والفردوس، والذي شهد اعلان سقوط النظام في التاسع من نيسان 2003، مع اسقاط التمثال الذي كان في ساحة الفردوس، والتي اطلقت عليها لمدة اسم (ساحة الحرية) وأصبحت موقعا للتظاهرات لايصال طلبات إلى قوات الاحتلال أو ضدها.. وما أزال اتذكر (اصغر تظاهرة) رأيتها في حزيران 2003.
والد من مدينة العمارة ومعه ابنه الذي بالكاد كان في العاشرة من عمره ويحملان لافتة تطلب المساعدة، سألته عن حاجته وقال إنه باع كل ما يملك بالف وخمسمئة دولار فقط مع اشتداد القصف وقرر المجيء إلى بغداد مع عائلته في بداية شهر نيسان 2003 واوقفته دورية امريكية وبعد تفتيشه، اخذوا منه المبلغ القليل واعطوه ورقة بالعنوان لاستعادته في ما بعد، كما ابلغه المترجم العربي الذي كان يرافقهم.. واعطاني الورقة لاقرأ له العنوان، الذي لم يكن سوى ( كلمات قذرة)!
وشهد هذا الشارع (الحواسم) واشهرهم الذين سرقوا تمثال (عبد المحسن السعدون) ايضا في نيسان 2003، وبقي منصته فارغا حتى وضع عليها تمثال اخر يشبه القديم، لكنه واستنادا إلى الخبراء اقصر منه. في هذا الشارع، كان اثنان من اجمل مسارح العراق، مسرح الستين كرسي ومسرح بغداد. الاول ضاع بين التغييرات التجارية القبيحة، التي يشهدها الشارع والثاني تحول بسبب الاهمال إلى مخزن.
وكانا اجمل دور السينما تقع في هذا الشارع والتي تحولت في سنوات الحصار إلى مسارح للمسرحيات التجارية، التي لم تكن تمت بصلة إلى المسرح العراقي العريق وتحولت الآن إلى محال تجارية ومخازن كثيرة ومزدحمة لدرجة اضاعت بريق اهم المكتبات العراقية والتي لا تزال في موقعها.
كانت مطاعم وفنادق بدرجات مختلفة تقع في هذا الشارع وكانت نظيفة وجاذبة للكثيرين، خاصة المرضى ومرافقيهم الذين كانوا يأتون إلى المحافظات إلى عيادات أشهر الاطباء، هنا، ولا يزال هذا الشارع يكافح لبقاء هذه العيادات بعد أن تحولت مناطق وشوارع أخرى في بغداد إلى مواقع (طبية)، تضم المستشفيات والصيدليات ومذاخر الأدوية. كانت ولا تزال شركات سياحية وطيران عديدة في هذا الشارع والجديد قرأته في إعلان أصقه صاحب شركة على زجاجها وتقول (لا نتعامل في بطاقات السفر للدولار)، ويعني بيع بطاقات السفر لاجل تغيير الدينار بالدولار، ومن ثم إعادة البطاقة واستفادة الطرفين من فرق سعر بيع الدولار في السوق! في 2005 شهد الشارع عملية ارهابية من خلال تفجير سيارة مفخخة، على أساس أنها كانت تستهدف رتلًا للجيش الأمريكي، واستشهد مدنيون عراقيون وتدمرت محال تجارية واحترقت سيارات مدنية.. وفي 2008، شهدت ساحة النصر واحدة من أكثر العمليات الإرهابيَّة الظلامية دموية، وتسببت باستشهاد وجرح العشرات من المدنيين..
وشهد الشارع في ساحته التي يبدأ منها (التحرير)، تظاهرات تشرين في ،2019 والتي استمرت لأشهر طويلة ومضى المئات من المتظاهرين شهداء وآلاف الجرحى، وبينهم من أصيب بعوق دائم، واستمر المتظاهرون ينتظرون افتتاح المتحف، الذي سيضم صورهم ونشاطاتهم في بناية المطعم التركي، كما وعدهم رئيس الحكومة السابق، واستمر الوعد باعلان فيليكس عملاق قرب البناية، كان يجدد بين فترة وأخرى، وتمَّ اهماله مع قرب إعلان الحكومة الجديدة، وبقيَّ منها القطع الحديدية التي كانت تسنده! ولا تزال جدران نفق التحرير تحتفظ بصور الشهداء والكرافيتي ( الرسومات والكتابات على الجدران)، الذي ابدعها المتظاهرون والتتظاهرات.. وتمَّ تأهيل ساحة التحرير وحديقة الأمة التي تحاول ان تعود متنزها ومتنفسا للأسر، بعد ان فقدت بغداد الكثير من مساحاتها الخضراء.. وصادفني في الشارع، شخص قذر جدا، وفي مكان يفوح بروائح نفاذة كريهة، قرب بناية تحت الانشاء، نائم على الارض مباشرة ويتغطى ببطانية قذرة ايضا.. وطبعا، كانت المتسولات ولكن باعداد اقل من المعتاد، كذلك كان عدد اطفال الشوارع قليلا، وكان عددهم كبيرا جدا حين كان فندق فلسطين (ميريديان)، موقعا للشبكات الاعلامية والعربية في بدايات الاحتلال، والفندق نفسه شهد مقتل المصور الاسباني (خوسيه كوسو) في 8 نيسان 2003..
عندما بدأت جولتي القصيرة، كانت النافورة التي تجمل ساحة الفردوس بعد اعادة تأهيلها تعمل، وعندما انتهيت، كانت النافورة متوقفة، سألت عن السبب وكان الجواب أن التيار الكهربائي مقطوع!.