جواد علي كسار
أفادت التقديرات الأولية بأن حجم التسوّق المتوقع في شهر رمضان هذا العام، يصل إلى (66) مليار دولار، والحافز إلى هذا الاستهلاك الاستثنائي هو العروض الخاصة وشركات الدعاية والتسويق.
مما ذكرته التقديرات هذه أن نسبة التسوّق والاستهلاك، ترتفع في الأردن خلال شهر رمضان 34 %، وفي المغرب 16 %، وفي السعودية 44 %، وفي مصر 120 % وهكذا.
بالعودة إلى خريطة الصيام والحكمة منه أو فسلفته، يحدّثنا القرآن الكريم عن التقوى كغاية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183) هذه التقوى التي لا أجد نصاً أروع وأعمق وأدقّ من نص الصادق المصدّق، وهو يرسم للأمة المحمدية خرائطها العملية ويضع خطواتها التفصيلية، في مثل قوله: «واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه، جوع يوم القيامة وعطشه»، كذلك: «وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم.. وتحننوا على أيتام الناس يُتحنّن على أيتامكم».
كما يقول صلى الله عليه وآله في مفتتح الخطبة نفسها: «أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب». هكذا يأخذ المصطفى بأيدينا إلى آفاق الخير الفردي والاجتماعي؛ المعنوي والمادّي، في الدعاء والقرآن ومكارم الأخلاق والبر وصلة الأرحام، إلى أن يقول: «أيها الناس، إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم».
لكن يبدو من تجربتنا مع الصيام أن البلاغ الإلهي والنبوي، ليس مؤثراً في مجتمع الصائمين، قدر تأثير دعاية شركات التسويق وواجهات الاستهلاكية الرأسمالية، وهي تسجّل ارتفاع الاستهلاك في الأطعمة والأشربة إلى أضعاف مستوياتها عن الأشهر العادية، ولستُ أدري كيف يتوافق هذا الهدر والسرف والاستهلاك، مع الحكمة النبوية: «واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه، جوع يوم القيامة وعطشه»؟!
إذا ما خرجنا من دائرة الاستهلاك المفرط للطعام والشراب في شهر رمضان خلافاً للحكمة المرجوّة من صيامه؛ سنجد أنفسنا في حفرة جديدة ليست أقل بؤساً من الأولى، وهي تتمثل في إشغال الناس بسيل منهمر من برامج الفضائيات وغيرها، وأغلبها يسوق الناس من تافهٍ إلى ما هو أتفه، وهي تسرق أعزّ رصيد الصائمين في هذا الشهر، وتهدر وقته!
لقد استعمل علي شريعتي عنوان: «الدين ضدّ الدين» لأحد كتبه، وأعتقد أننا بانسياقنا وراء المبالغة في الأطعمة والأشربة حدّ التخمة والإسراف، وهدر أوقاتنا في برامج التفاهة وما أكثرها من حولنا، إنما نكشف عن إصرار جماعي لأمة المصطفى ومجتمع الصائمين خاصة، في اغتيال القيمة المعنوية للصوم ومصادرة الفلسفة الحقيقية للشهر الفضيل، بتحويل الصوم إلى ضدّ للصوم!