العاصمة.. بين الإدارة والخدمة
د. علي داود العطار
بيّنا في الجزء الأول شرحاً لما تعانيه إدارة العاصمة من تعارضات في المبادرات، وتداخلات في الصلاحيات، وتناقضات في الإجراءات، ما يسبب تلكؤاً في الانسيابية المرجوة في إدارتها وخدماتها. ثمة مؤسسات يعنيها أمر العاصمة. ففي البُعد التشريعي، فمجلس النواب ونوابه اتحادياً ومجلس المحافظة وأعضاؤه محلياً، وبالبُعد التنفيذي، فالحكومة الاتحادية بمقرها في العاصمة صاحبة السلطة والقرار المركزي، والمحافظة هي المخولة بتقديم الخدمات بارتباطها بالحكومة المحلية وفقاً للدستور، وأمانة بغداد بين هذه وتلك.
ويبقى قانون العاصمة وتنظيمه هو الفيصل في فك التداخل والتعارض الحاصل وتحديد صلاحيات ومهام كل جهة من الجهات.
فبقي هذا القانون دون تشريع، متنقلاً بين مسودةٍ هنا ومقترح هناك، ومؤيدٍ هنا ومعارض هناك، كونه يتعارض مع قناعات أو مصالح إحدى المؤسسات المعنية به.
ولعل الحالة الحاصلة فعلياً من فوضى في إدارة العاصمة هي بمصلحة بعض الجهات لعدم وجود نظام ينظم العمل والمهام، والمتضرر هو المواطن.
نحاول في هذا المقترح أن نخرج عن النمطية المعهودة والنقاشات التي تحصل في مؤتمرات وورش وندوات مناقشة قانون العاصمة والاستفادة من بعض التجارب العالمية في إدارة المدن الكبيرة (metropolitan) سعياً للحصول على الصورة الأفضل لإدارة العاصمة وذلك من خلال تبيان المحددات القانونية والتحديات الفنية والإدارية وأخيراً مناقشة تعريف العاصمة وحدودها والمؤسسات الفاعلة فيها وصلاحياتها وصولاً لمقترح حل لهذا التداخل من خلال تغيير منهجي في النظرة إلى العاصمة وإدارتها وخدماتها.
أولاً: المحددات القانونية:
السند الدستوري للعاصمة:
أوضحت المادة 124 من دستور جمهورية العراق الصادر عام 2005 “بغداد بحدودها البلدية عاصمة جمهورية العراق، وتمثل بحدودها الإدارية محافظة بغداد.
ثانياً: ينظم وضع العاصمة بقانون”.
2 -التنظيم الدستوري لمبدأ اللامركزية والحكومات المحلية:
رسخ الدستور مبدأ اللامركزية الإدارية في عموم صلاحيات الحكومات المحلية، وأفرد الفصل الثاني منه لتنظيم أحكام المحافظات التي لم تنتظم في إقليم وجاء ضمن الباب الخامس والذي حمل عنوان “سلطات الأقاليم” واحتوى على أحكام تتعلق بتكوينها وصلاحياتها الإدارية والمالية ضمن مبدأ اللامركزية الإدارية، وعدم خضوع مجلس المحافظة لسيطرة أو إشراف أي وزارة أو أي جهة غير مرتبطة بوزارة.
3 -الحكومات المحلية في القانون:
أكد قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008 المعدل وتعديلاته على اللامركزية الإدارية وممارسة الحكومات المحلية لدورها من خلال ممثلي الشعب في مجالس المحافظات وبصلاحيات واسعة تمنحهم اتخاذ القرار في الشؤون المحلية.
ثانياً: التحديات الفنية والإدارية في إدارة العاصمة:
• وجود الحكومات المحلية كجهة محلية منتخبة مسؤولة عن الإدارة المحلية لمدينة بغداد
• وجود الحكومة المركزية بوزاراتها ورئاستها في العاصمة باعتبار بغداد مقر السلطة الاتحادية في العراق
• تداخل مهام وصلاحيات الحكومة المحلية والحكومة المركزية في بغداد وعدم تحديد وفرز المهام والواجبات المناطة لكل جهة.
• تداخل مهام أمانة بغداد المرتبطة بالحكومة المركزية حالياً مع واجبات الحكومة المحلية في متابعة حُسن تقديم الخدمات.
• عدم قدرة المؤسسات الفعلية المعنية بشؤون مدينة ومحافظة بغداد على استيفاء استحقاقاتها المرجوة كعاصمة وكمدينة أساسية وكبيرة وفقاً للهيكلية الإدارية والصلاحيات والتخصيصات المالية.
• سوء الإدارة المالية لبغداد وكذلك عدم وجود خطة ستراتيجية موحدة متفق عليها للأولويات وتحديد المهام للمفاصل المختلفة وفقاً للستراتيجية.
• إن أمانة بغداد رغم مهامها المرتبطة بالشؤون الخدمية للمواطنين ترتبط برئاسة مجلس الوزراء وفقاً لقانونها الفعلي وتهتم حالياً أمانة بغداد بتوفير الخدمات في العاصمة من خلال تقديم الخدمات البلدية وتنفيذ المشاريع الستراتيجية للبنى التحتية ومتابعة تنمية العاصمة بجوانبها الحضرية.
وإن الحجم الكبير للمهام الموكلة لها يوجب إعادة النظر بهيكليتها ونوع المهام الموكلة بها، إضافةً إلى عدم وجود تشريع أو قانون يمنح حكومة بغداد المحلية بصفتها التشريعية والرقابية صلاحية الإشراف على عملها ومتابعة أدائها.
• تهتم محافظة بغداد بالشؤون الإدارية لمحافظة بغداد في العاصمة وخارجها (أولاً) والخدمات البلدية للأقضية المحيطة بالعاصمة (ثانياً)، ويشرف على عملها مجلس محافظة بغداد المنتخب كباقي المحافظات الأخرى.
• بناءً على التوزيع السكاني، فإن أغلب أعضاء مجلس محافظة بغداد يسكنون وأيضاً منتخبون من مدينة بغداد ويفتقدون التمكين اللازم لمتابعة الشؤون الخدمية والبلدية للعاصمة.
• إن الهيكلية الإدارية لمحافظة بغداد وأمانة بغداد لا تلبي المهام الموكلة لهما من حيث النوع والكم، ما تسبب بإخفاق في الأداء ويتطلب إعادة النظر بهيكليتهما وفقاً للمهام الموكلة لهما.
ثالثاً: الحدود البلدية للعاصمة:
• إن تحديد الحدود البلدية للعاصمة يخضع لعوامل عدة أهمها المخطط الإنمائي الشامل وما بينه المخطط من حدود وفقاً للمعايير التخطيطية المتخذة للمخطط.
•هذه الحدود تتأثر بتنمية وتطور المدينة بحسب النمو السكاني والعامل البيئي والتنمية المكانية والخدمات والطرق والبنى التحتية وذلك وفقاً للخطة التنموية، ما يتسبب بضرورة تحديثه وتطويره وإعادة تحديد لحدود المدينة.
• كذلك تتأثر بنمط السيطرة على النمو العشوائي خارج المدينة وتأثر المدينة بالحدود المرسومة لها.
• تمت مناقشة الحدود البلدية للعاصمة في مراحل عدة عُقدت الورش والمؤتمرات المختلفة لها، فالطروحات المقترحة لتحديد الحدود البلدية للعاصمة تبدأ من تحديدها بالمركز الحكومي للمنطقة الخضراء لتتغير إلى الحدود البلدية الموجودة عند كتابة الدستور إلى الحدود المثبتة لمدينة بغداد ضمن المخطط الإنمائي الشامل السابق أو اللاحق إلى مقترح بلدية بغدادالكبرى.
• تتعارض جميع هذه الطروحات مع المقترحات الفنية لتنمية المدينة وخدماتها في خارج الحدود المقترحة.
سواء على مستوى إنشاء الحويصلات السكنية أو المنظومات الخدمية التابعة للمدينة في خارجها كمشاريع الطمر الصحي أو محطات التصفية الأساسية وغيرها من المكونات المرتبطة بالعاصمة، والتي لطالما تسببت بمتعارضات بين إدارة العاصمة والإدارة المسؤولة عن الخدمات خارج حدود العاصمة الفعلية.
• لقد واجهت إدارة العاصمة جملة من المشكلات لاعتمادها الحدود البلدية الفعلية لمدينة بغداد وذلك نظراً للاكتظاظ السكاني والزيادة السكانية وتطور الخدمات وتقادم البنى التحتية والحاجة للتوسعة والتنمية، ما حال دون الاستيفاء بجميع الخدمات المطلوبة للعاصمة.
كما أن عوامل التوسعة والتطور طالما تقيدت بالحدود الفعلية المرسومة لمدينة بغداد.
• توجد مقومات تنمية وتطوير في مناطق خارج حدود العاصمة يمكنها أن تكون نواة لإكمال ما عجزت عنه إدارة العاصمة في داخل المدينة ضمن الواقع الفعلي، كمثال على ذلك مناطق أبو غريب والمحمودية والنهروان وما تمتلك من مقومات التنمية والتطور الاجتماعي والخدمي والاقتصادي أو إنشاء عاصمة إدارية أو مجمعات حكومية أو غيرها مما له ارتباط مباشر بالعاصمة وإدارتها وهي خارج حدود البلدية الفعلية.
• إن كثيراً من المشاريع التنموية جزء منها ضمن الحدود البلدية للعاصمة والجزء الآخر خارج حدودها ومنها مقترح تنمية المنطقة المحيطة بمطار بغداد الدولي أو مشاريع الطريق الحلقي الرابع والذي بات جزءاً من المدينة في حين يفترض أن يكون محيطاً بها وغيرها الكثير من المشاريع.
• مما تم تبيانه فإن مفهوم الحدود البلدية هو مفهوم ذو مرونة وليس مقيداً بمحددات جغرافية (أولا) وكذلك أن الحاجة الخدمية وضرورات الإدارة هي الأساس في تحديد الحدود البلدية ونوع الخدمات المقدمة فيها (ثانياً)
رابعاً: المقترح:
إعادة تحديد لحدود المدينة وإدارة خدماتها البلدية وتفكيك مهام إدارة مدينة ومحافظة بغداد بالشكل التالي:
أولاً: أمانة بغداد (بلدية بغداد الكبرى):
تقوم أمانة بغداد بجميع المهام “البلدية” الخدمية كالنظافة والاكساء للمناطق السكنية الفعلية والتأثيث البلدي وتطبيق ضوابط البناء والضرائب والرسوم وفقاً للقانون، للأقضية المختلفة في بغداد سواء “داخل مدينة بغداد أو خارجها” ويتم تعريف حدود العاصمة بحدودها الجديدة المطابقة للحدود الإدارية.
وترتبط بحكومة بغداد المحلية إدارياً ومالياً ومن حيث الميزانية والتشريع والخطط والمتابعة واختيار المسؤولين عليها وتخصيص الموارد المالية اللازمة لها من خلال الموارد المحددة لها وفقاً للقانون.
ثانيا: محافظة بغداد:
وهي المسؤولة على الشؤون الإدارية لبغداد بحدود المحافظة الإدارية وفقاً لفك ارتباط الدوائر المحلية والدستور والقوانين النافذة.
إضافة إلى مهامها كالمحافظات الأخرى في إدارة مشاريع البنى التحتية الستراتيجية الخدمية لبغداد كالمدارس والمستشفيات وغيرها وبالتنسيق وبالتكامل مع وزارة الإعمار والإسكان والبلديات والأشغال.
وترتبط بحكومة بغداد المحلية إدارياً وماليًا ومن حيث الخطط والمتابعة واختيار المسؤولين عليها.
ثالثاً: هيئة تطوير بغداد
تهتم وتتخصص هيئة تطوير بغداد بالسياسة العامة للعاصمة بغداد والشؤون الستراتيجية ورسم الأولويات لتطبيق ومتابعة المخطط الإنمائي الشامل مع أمانة ومحافظة بغداد وكذلك تبني المشاريع الستراتيجية كإدارة النقل ومشاريعه، وإحياء المناطق التراثية الأساسية للمدينة واتخاذ القرار بخصوص تطوير بغداد عمرانياً وصناعياً وخدمياً، أو غيرها من المشاريع الستراتيجية لمعالجة التلوث والنفايات أو تطوير ضفاف نهر دجلة أو غيرها.
وتعتبر هيئة مستقلة ترتبط برئاسة الوزراء إدارياً ومالياً وتنسق مع الحكومة المحلية وفق آلية محددة.
متطلبات تنفيذ المقترح:
• تشريع قانون العاصمة باعتبار الحدود البلدية للعاصمة مطابقة للحدود الإدارية وكذلك محافظة بغداد، بالصلاحيات المذكورة أعلاه مع إعادة النظر بهيكلية محافظة بغداد وأمانة بغداد وهيئة تطوير بغداد.
• إعادة تشريع قانون أمانة بغداد لتحديد المهام والواجبات والصلاحيات والهيكلية الجديدة.
• استحداث هيئة جديدة تسمى «هيئة تطوير بغداد».