كلمة في التعصب والعنف

آراء 2023/03/30
...






 رعد أطياف


حين نذكر كلمة «تعصّب» تذهب الإحالة فورًا إلى الجماعات الدينية. فنحن لا نوضّح ماذا نقصد بالضبط؛ هل نقصد حصر التعصب وما ينتجه من عنف بالجماعات الدينية فحسب، أم نقصد أن التعصب من حيث النوعية واحد، كل ما في الأمر أن المتعصبين يتفاضلون بالدرجة ليس إلّا؟ 

 ما أحدثته النتائج المروّعة للقنبلة الذرية التي أسقطها الأمريكان على اليابان، وما أحدثته الحربان العالميتان من دمار شامل في أوروبا الغربية، وما تحدثه روسيا من دمار كبير في أوكرانيا، وما أحدثته الأعمال الإرهابية لتنظيم القاعدة، هل تتفاضل هذه الأعمال في ما بينها، أم لها جذر واحد؟ 

هل تنفرد الجماعات الدينية المتعصبة بتدمير الحياة، أم يتعدى هذا المفهوم إلى مجال أوسع ويطال الأنظمة السياسية الأكثر «عقلانية»؟ مع ملاحظة: أن الحربين العالميتين خاضتها أكثر الأنظمة التقدمية في أوروبا، وكانت نتائجها ملايين من القتلى، والمعاقين، والمفقودين.

إن حصر جذور العنف والتعصب في الجماعات الدينية المتطرفة يسقطنا في فخ الانطباعات النفسية؛ أنها انطباعات خالية من الموضوعية تماماً، ولا تسلط الضوء على أمراض النفس البشرية بشكل واضح. وهذه الانطباعات تندرج، لا شعورياً، في خانة التعصب والعنف، مع أنها تحاول جاهدة الوصول إلى حالة موهومة تميّزها عن الجماعات المتعصبة. 

وربما تحاول النظر إلى التعصب والعنف من حيث الجدوى؛ كلما كان التعصب والعنف ذا منافع سياسية واقتصادية كان إلى القبول والترحيب والتبرير أقرب!

 الإيمان والعقلانية، بصفتهما الجماعية، كلاهما لا يعصمان النفس البشرية من الوقوع في مهاوي الظلال. يتصرف العقلانيون والمؤمنون بشراسة وعدوانية طالما ثمّة منظومة أفكار توهمهم بالأفضلية على الغير. 

بيد أن هناك سمة مهمة للعقلانية وهي قدرتها على التجاوز والمساءلة والنقد. وكلما كانت الأنظمة السياسية «العقلانية» تتجه سياستها نحو الداخل كانت إلى الحكمة والتعقل أقرب، بيد أن هذه الحكمة تتحول إلى اجتياح وغزو متى ما تعلق الأمر بسياساتها الخارجية ومصالحها الحيوية. 

 بعد أن توفرت لأوروبا الحديثة أسباب القوة والهيمنة، سرعان ما أسقطت من معجمها السياسي والاقتصادي حرية الآخرين بغية تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية، ومن ثمة لا نرى أي أثر لهذه العقلانية. 

لقد ترك الأوربيون العقلانية جانبًا حين تعلق الأمر بمصالحهم الحيوية، فتطاحنوا في ما بينهم ودمروا بعضهم البعض، وما زال شبح الحربين العالميتين شاخصًا في الذاكرة الأوربية.

إن المتعصب، مهما كانت منظومته الفكرية، لا يرى من نفسه سوى أداة. 

ما الأداة؟ أنها الآلة المُستَخدَمَة لغاية محددة (من وإلى..). لا يمكن لمفكّ البراغي أن يُستَخدم لتقطيع الفواكه، ولا يمكن للسكين أن تنوب عن مفك البراغي. وكذا المتعصب؛ أنه أداة مُوَجَّهَة لغاية محددة: العنف. 

 ما أن ينخرط الفرد في منظومة أفكار تفتقر للمساءلة والتجاوز والنقد وتدعي لنفسها التفوق دون غيرها، فسرعان ما تتحول إلى آلة قتل طويلة الأمد! وما أن ينخرط الفرد في جماعة، عمومًا، فسرعان ما يفقد نصف روحه(إن لم تكن كلها) ويتحول إلى أداة طيّعة بيد التعصب والعنف، ويغدو كل ما يقوم به صوابًا أما الآخرون فسيندرجون فورًا في قاموسه الرجيم. 

ومن هنا حين نقول «يفقد نصف روحه» نعني بالتحديد أنه فقد كل إمكانياته الخيرة التي تصيّره إنسانًا يتواجد في العالم كمشروع يهتدي بهدي الحرية، لا أن يسقط في التشيؤ والاغتراب اللذين يقودانه في نهاية المطاف أن يغدو آلة للتعصب والعنف.

من هذا المنطلق تتسع دائرة العنف ولا تتوقف عند جماعة أو نظام سياسي دون غيره. ويبدو أن الإيمان والعقلانية ليستا الحد الفاصل للعصمة من التعصب، استناداً إلى الوقائع التاريخية التي

 بيّنّاها.