خواطرُ وأفكارٌ عن السينما التجريبيَّة

الصفحة الاخيرة 2019/04/16
...

باريس/ صلاح سرمين
(1)
بدأت السينما نفسها عن طريق التجارب التقنيَّة، وتطورّت في أنواعٍ متعددة، ومختلفة: روائيَّة، تسجيليَّة، وتحريك، وما كان لها أنْ تستمرّ من دون تجدد، وتجديد مفرداتها الجماليَّة..
ومنذ العشرينيّات، بدأ سينمائيون، وشعراء، ورسامون، وكتّاب بالاهتمام بأفلام مختلفة تبتعد عن الحكاية، والتسجيل، وحتى عن نمطيّ الإنتاج والتوزيع المُتعارف عليهما في السينما التقليديَّة (السائدة/ أو الجماهيريَّة)، ومن هنا بدأ الحديث عن سينما طليعيَّة، مختلفة، شخصية، إلخ... إلى أنْ استقرّت الحال عند اختيار “التجريبيَّة” كتصنيفٍ لكلّ الأفلام التي لا علاقة لها بالسينما الحكائيَّة، وتنشغل أكثر بالشكل، والعمل على الصورة، والصوت، والبحث في كلّ تفاصيل السينما، والفيلم، وما يرتبط بهما.
منذ بداياتها، وحتى اليوم، لم تتوقف السينما عن تجديد نفسها، والتأثير في كلّ أنواع الأفلام بما فيها الأغنيات المُصوّرة (الفيديو كليب)، والأفلام الإعلانيَّة، ووصل تأثيرها إلى التلفزيون الذي كانت في خصومةٍ معه، ومنذ ذلك الوقت، ظهرت حركات فنيَّة عامّة شملت السينما فيها، مثل المُستقبليَّة، الدادائيَّة، والسورياليَّة..
بالتوازي، وفي إطار تجديد نفسها، كانت السينما السائدة تُنتج موجاتها وحركاتها، مثل الموجة الفرنسيَّة الجديدة، والواقعيَّة الإيطاليَّة، أيّ كانت، ولا تزال تسلك دروباً متقاطعة في ما بينها، كلّ واحد يتأثر، ويؤثر بالآخر، وبدون هذه الحركات والاتجاهات، ومنها “السينما التجريبيَّة”، لما وصلت السينما إلى ما هي عليه الآن، ورُبما بقيت حبيسة ما كانت عليه منذ الأخوين لوميير، وجورج ميلييس، وكلّ مخترعيّ وصانعي أفلام تلك الفترة.
 
(2)
كلّ متفرج يتابع الأفلام التي يرغب، هناك من يُفضل مشاهدة الأفلام الهنديَّة مثلاً، وفي إطار هذا التفضيل المشروع، هناك من يميلُ إلى مخرجٍ معين، ولكنْ، بالمقابل، هناك من يمقت السينما الهنديَّة، ويعدّها أقلّ من ذوقه، ويمكن تطبيق هذا المثال على كلّ ما تقدمه السينما، ومنها “التجريبيَّة” المعروفة جداً في الغرب، وللأسف، هي غريبة على المتفرج العربي لأنَّه لا يعرفها، ولا تتناسب مع ذوق عمرٍ أمضاه في مشاهدة السينما التقليديَّة، أيّ السينما التي يتابعها بتفضيلاتٍ منه، أو باقتراحاتٍ من الثقافة السينمائيَّة العربيَّة التي لا تميل إطلاقاً للسينما التجريبيَّة، وإلاّ لوجدنا أحدهم يهتمّ بالكتابة عنها، والترويج لها، والسبب، لأنَّ هذا الناقد، أو غيره، يفضل أفلاماً معينة تعوّد، أو بالأحرى عوّد نفسه على مشاهدتها، واكتفى بذلك، وتيّقن بأنها هي السينما، وهي بالفعل سينما مريحة.
 
(3)
ملايين من البشر في هذا العالم، وأنا واحدٌ منهم، هي باختصارٍ جانبٌ من تاريخ السينما، ولكن، من هذه الملايين هناك رُبما مئاتٌ فقط من العرب يشاهدونها، ويدركونها، ويتابعونها، ومن المفيد الإشارة، الى أنَّ عشرات من السينمائيين العرب ينجزون أفلاماً تجريبيَّة (مُبسّطة)، ولكنها لا تصل إلى المتفرج كما حال السينما السائدة.
من يشاهد السينما التجريبيَّة؟ 
المتفرج المُهتم بهذا النوع من الأفلام، وحتى الأطفال، يكفي مشاهدة طوابير المتفرجين العاديين (وليس المتخصصين) الذين يقفون أمام صالة العرض التي تعرض قسم الأفلام التجريبيَّة (المختبر) لمهرجان كليرمون ـ فيران (فرنسا)، وهناك مئات المهرجانات في العالم متخصصة بالسينما التجريبيَّة، ومئات أخرى متخصصة بالفيديو آرت، كما مئات المؤسّسات الأهلية المُهتمّة بتوزيع السينما التجريبيَّة، والفيديو آرت، ومئات المتاحف التي تهتم بالسينما التجريبيَّة، يكفي زيارة “متحف الفن الحديث” في نيويورك، ويكفي تصفح موقع “مركز جورج بومبيدو” في باريس، ومتاحف أخرى، ويكفي النظر في برمجة “السينماتك الفرنسية” في باريس، والمدن الأخرى، ويكفي أيضاً التعرّف على مئات الكتب عن السينما التجريبيَّة في فرنسا وحدها كي نعرف حجم هذا الاهتمام، والطريف/ المخيف، ليس هناك كتابٌ واحدٌ منها وصلَ مترجماً إلى المكتبة العربيَّة، وبشكلٍ عام، في كلّ مهرجان سينمائي (وحتى في بعض المهرجانات العربيَّة) سوف نعثر على أفلام تجريبيَّة.
من يشاهد السينما التجريبيَّة إذاً؟ 
سؤالٌ فقد مفعوله منذ عشرات السنين، وحتى أصبح مثيراً للسخرية.
 
(4)
الصور المُرفقة مع هذه الخواطر عن السينما التجريبيَّة، هي في الأصل لوحات تجريديَّة للفنانة السعودية “اعتدال العطيويّ”، ومن أجل فهم السينما التجريبيَّة أكثر فأكثر، علينا أنْ نطرح على أنفسنا السؤال الجوهري التالي:
ـ لماذا نحتفي بالتجريد في الفنون التشكيليَّة، ونجد أنفسنا عاجزين عن استيعابه وتذوّقه عندما يتجسّد في السينما؟
الإجابة، لأننا غارقون في مشاهدة السينما السائدة.
وكما أنَّ التجريد ممارسة من ممارسات الفنانين في الفنون التشكيلية، هو أيضاً شكلٌ من أشكال السينما التجريبيَّة.
عن هذه اللوحات كتب الفنان المصري عبد الرازق عكاشة: “تقدم لنا الشاعرة اعتدال العطيوي قراءة شعريَّة في اللون، وأخرى فنيَّة في كتابة النص البصري”.
وفي السياق عينه، عندما نشاهد فيلماً (تجريبياً) تجريدياً، فإننا نشاهد نصّاً بصرياً بطريقةٍ شعرية، وأضيف: موسيقيَّة.
وهذا هو الفرق الجوهريّ بين فيلم تجريبيّ، أياً كان شكله، وفيلم روائي، أو تسجيلي.
 
(5)
سأل أحدهم الناقد السينمائي اللبناني محمد رضا سؤالاً مهماً:
ـ هل يمكنك نقد فيلم تجريبي، وكيف؟
وكانت إجابته مركزة جداً، وذكيَّة جداً، وصحيحة جداً :
ـ نعم، ولكن نقدي سيقوم على مبادئ مختلفة كثيراً، وسأتعرّض فيه لاحتمالات خطأ، إجمالاً الأفلام التجريبيَّة لا تُشاهد، وفي البال تفكيكها كحال الفيلم غير 
التجريبيّ.