الهويَّة الأصيلة وأزمة الوعي المواطني

آراء 2023/04/06
...

 علي المرهج

كان الغرب بلا هوية، وأهل الشرق من العرب هم من كانوا واسطة للتعريف بهويته، فهم من ترجموا الفلسفة والعلم اليوناني، وشكلوا حلقة الوصل بين تراث غربي مُضيء لا يعرفه أهله، ليكون العرب واسطتهم التي يعرفون بها جذرهم المعرفي ليعيدوا إنتاج هويتهم وتأصيلها عبر امتدادها اليوناني ليتفاخروا بديمراطية اليونان وتأسيسهم للوعي المواطني.

لم يكن الغرب يعرف قيمة الفلسفة اليونانيَّة لو لم يكن لدينا مترجمون مثل آل حنين وفلاسفة مثل المعلم الثاني (الفارابي) وابن سينا والشارح الأكبر ابن رشد. لا أظن أن للغرب هويته الثقافية لو لم يكن العرب واسطته في التعريف بنتاج الفلسفة اليونانية، لذلك لا هوية ثقافية غربية من دون الفعل الثقافي العربي والإسلامي، وهذا ما يؤيده كذلك، تأثر الفلسفة اليونانية بحضارات الشرق الأوسط القديمة، لا سيما حضارتي مصر والعراق، إذ يذكر غوستاف لوبون في كتابه (حضارة بابل وآشور) «أن الإغريق يقولون بأعلى أصواتهم أنهم أخذوا مدنيتهم عن مدارس العلم القديمة التي أزهرت فوق مجرى الفرات الأدنى في العصور القديمة... لذلك يقول هيرودوتس وأرسطو وآخرون أن نمو العقل البشري كان مُترعرعاً وكاهلاً فوق ضفاف الفرات».

لقد كان مجرى الفرات مأهولاً بشعب ذكي، ظامئ إلى المعرفة، ماهر في مُعاملاته صبور في أبحاثه. علاوة على أنه أول من حاول الاهتداء إلى أسباب الظواهر الطبيعيَّة.

بحسب تعبير المفكر الإيراني «داريوش شايغان» في كتابه «هوية بأربعين وجهاً» «أن كلَّ هوية كيان هجين»، بمعنى عدم وجود هوية نقيَّة بحسب دعاة «النقاء العرقي للهويَّة».

قد يقترب هذا التصور مما أحدثته العولمة بوصفها محاولة لإلغاء الهويَّة، فاذا كان مفهوم الهويَّة يعني «ما به يكون الشيء نفسه» فإنَّ هذا المفهوم لم يعد له اهمية في زمن العولمة، لأنَّ الشيء لا يكون نفسه بل هو غيره، فبعد ان كان ما يميز الهوية التفرّد والتميز، اصبح مع العولمة التماثل والتشابه بين الثقافات هو هوية العولمة، واذا كانت الهوية «مطابقة الشيء لنفسه» فقد اصبح مع العولمة مطابقة الشيء للآخر، واصبح مفهوم «التذاوت» مع الاخر هو الذي يحكم زمن العولمة فمنطقها هو ان يجتمع النقيضان معا، وبعد ان كان من قوانين المنطق الثالث المرفوع، أي اما ان يكون الشيء هو هو واما ان يكون غيره، اصبح مع العولمة من الممكن ان يكون الشيء هو وغيره معا، انه تقويض لقوانين المنطق وتجاوز للعقل لفرض نظام القطب الواحد.

المشكلة في العولمة أنها تفرض شكلًا آخر للهوية يتجاوز الهوية الوطنية لصالح هوية «مائعة» أو كما يُسميها سمير أمين «الهوية المرنة» التي تتجاوز الخصوصيَّة لصالح الكوكبيَّة، بما أصطلح عليه «القرية الكونيَّة»، ولكن المشكلة في هذا الشكل الهوياتي الجديد أن يفرض شكل الحياة الأمريكية وإلغاء تمثلات الهويات

 الأصيلة.

لم يعد في زمن ما بعد الحداثة حضور للهوية الأصيلة، فقد بيَّن إيهاب حسن في كتابه «أوديب ـ أو تطور ما بعد الحداثة، أهم سمات ما بعد الحداثة:

ـ عدم التحديد، أو النسبية واعترافنا بصعوبة الحسم لأن «المُبهمات تتخلل أفعالنا، وأفكارنا، وتأويلاتنا، إنها تُشكل العالم».

ـ التشظي و (التفتيت). إن فكر ما بعد الحداثة يُشظي ولا يثق سوى في الشظايا... إنه يُضل الكناية على الاستعارة، والشزوفرينيا على البارانويا. ما بعد الحداثة إعلان حرب على الكُلية والنزعة الشمولية بكل تمظهراتها.

ـ هيام ما بعد الحداثة في الإنزياح وخرق النسق والخروج عن الأعراف والقوانين والقيم الموروثة التي رسمتها السلطة وأمعنت في المحافظة عليها.

هذا الفهم أدى إلى تشظي الهوية المركزية لصالح «الهويات الفرعية»، على الرغم من أن القصد منه هو الاعتراف بهذه الهويات على أنها مكملة للهوية الإنسانية، لكنها (للأسف) أدت في مجتمعاتنا لنتائج عكسية، فبدل الاعتراف بالآخر، حل الدفاع عن الهوية الجماعاتية، فغُيّبت «الهوية الوطنية» بامتدادها القومي والوطني، وصار البعض يبحث عن مُماثلات لـ «هويته الفرعية» خارج حدود الوطن كي يحتمي بها، ويواجه الهويات الأخرى بالرفض الأيديولوجي والتشكيك بها، الأمر الذي أدى إلى غياب «الوعي المواطني».