أحلام اليقظة

آراء 2023/04/06
...

 رعد أطياف


في المجتمعات الغربية يمكنك أن تستحضر مفاهيم تحلل واقع هذه المجتمعات، مثل مفهوم اليمين واليسار. في مجتمعات تقليدية مثل المجتمع العراقي يصعب عليك استحضار هذه الثنائية الشهيرة لتحليل الوضع العراقي. ذلك أن بنية هذه الثقافة قائمة على عنصري المذهب والقبيلة. أما المظاهر (أو الأعراض!) «المدنية» التي تحاول أن تعبر عن نفسها سياسيًا، فهي لا تعدو أن تكون محاولات لا تنفذ في العمق، لأنها لا تترجم نفسها سياسيًا بشكل حقيقي. 

بمعنى أن المناخ الثقافي (مذهب - قبيلة) يبتلع كل هذه الفعاليات، ويحيلها إلى لحظات حماسية سرعان ما يخبو بريقها عند أول تجربة. إن التنظيم السياسي الذي يتبنى مفاهيم عابرة لحدود التجربة العراقية، والحاضنة الشعبية الداعمة لمثل هذه التوجهات لم يُخلَقا بعد. 

نحن نتغنى بكائن لم يرَ النور، كائن لم يربح يانصيب الوجود على الإطلاق، وأعني به الدولة الحديثة. القضية ليست قضية أفراد يتهندمون بالأزياء الغربية الجميلة، ولا مثقفين لا يشكلون أدنى تأثير بالرأي العام، بل في بيئة طاردة لا تعير أي أهمية لمثل هذه المظاهر.  إنَّ أزمة التأسيس معضلة كبيرة للغاية، إذ ما زالت تتحكم بها الأهواء العنيفة، من قبل «المعارضة» نفسها من جهة، والخطاب الشعبوي الذي يُجهز على كل تجربة قبل أوانها من جهة أخرى. إننا أمام خطاب حماسي يمكنه أن يثرثر في كل شيء إلا الاعتبار من حقائق التاريخ.

عند هذا الحد تتفجر أحلام اليقظة، وتغدو اليوتوبيا كبديل عن الخسائر السياسية والاجتماعية التي يصطدم بها كل حراك سياسي لا يأخذ الظروف الموضوعية بالحسبان، فيهيمن عليه السلوك «الثوري»، ثم يحلم كما لو أنه في ضاحية من ضواحي باريس، وينسى أنه في بيئة تحتاج إلى مطاولة ورباطة جأش مثل البيئة العراقية. وينسى أن العالم الافتراضي الذي صنعه في مدونته الشخصية ليس له أدنى علاقة بالواقع الفعلي. وهذه اللوثة لا تتوقف على أفراد وإنما تطال الكثير من المتعلمين. 

في أحد كتب أركون التي قرأتها منذ زمن، ولا أتذكر العنوان بالضبط، يذكر فيها حقيقة مُعاشة في أجواء السوربون، وهي الحذر الشديد من تناول الدين في أروقة هذه الجامعة العريقة، نظراً للطابع العَلماني المتشدد- لأن العلمانية الفرنسية هي الوحيدة التي تتشدد مع الدين في الفضاء العام-، والخوف من اتهام  البعض بحجة الميول إلى الدين. لذلك لم يسلم أركون من هذه «التهمة»، وكانوا يتندرون عليه، كما يذكر، بوصفه لم يتخلّص من ذلك الرجل الأصولي القابع في أعماقه حسب زعمهم. 

هذه القصة تذكرني بالضبط بأجواء الفيسبوك المُتَخَيَلة؛ أنه «سوربون» افتراضي يضج بالثوريين والمفكرين ويحلو لهم توجيه الرأي العام مثلما يشتهون. الأمر الذي جعل الكثير من الكتاب الجادين تجنب الاصطدام مع هذه الكائنات واختيار العزلة السياسية كبديل آمن من هذا الوحش الجماهيري الافتراضي.

 وفي ظل أجواء متخيلة ومحلوم بها، يتعامل بعض الجمهور «العَلماني»، القابع في هذا السجن الأزرق، مع المهتمين بالشأن الديني مثلما يتعامل العلمانيون المتشددون مع أركون.     

 ويصر هذا الجمهور على طابعه الجذري العنيف هنا في هذا العالم، لكنه يمتنع بضراوة وحشية من التعامل بعقلانية مع الأحداث، والنظر إلى المنطق المناسب لمرحلة ما، ويرفض التحضير للخطوات الناضجة لكي لا يفوّت عليه الفرصة، وأن يضع العمل السياسي على وجه الأرض نقطة انطلاق لمشاريعه المستقبلية. 

 لذلك لا نستغرب من بعض «العلمانيين الثوريين» من السقوط في وحل الانتهازية، بعد أن كان صراخه «العلماني» يزلزل جدران 

الفيسبوك.