الكذب في العلاقات الدوليَّة

آراء 2023/04/06
...

 ميادة سفر

 لم يحظ الكذب في العلاقات الدولية بالكثير من الاهتمام، على الرغم من تكشف الكثير منه، سواء على الصعيد الداخلي للدول أو الخارجي منها، إذ إنّ الكذب لطالما أُدرج ضمن الممارسات الفردية وعلى صعيد العلاقات الشخصية للأفراد، أما على صعيد الدول كفاعل أساسي في العلاقات الدولية، فإن الكذب يندرج تحت مسميات سياسية ومبررات عدة تبعده عن كونه سمة شخصية للقائد أو الزعيم، على اعتبار أنّ السياسة هي فن الممكن، فإنها تتطلب بعضاً من الاقتصاد في المعلومات وإخفاء بعضها لدواعي أمنية تارة أو عسكرية وربما اقتصادية تارة اخرى.

في كتابه لماذا يكذب القادة؟ يرى جون ميرشيمر أنه في مضمار السياسة الدولية يمكن للقادة أن يختلقوا سبعة أنواع من الأكاذيب، مثل الكذبة التي يطلقها قائد لشعبه بخصوص تهديد خارجي محتمل، للحصول على دعم شعبي للتصدي للتهديد المزعوم، ومن أنواع الكذب على الصعيد الدولي التي عددها ميرشيمر الكذب الستراتيجي، الذي يهدف إلى إخفاء سياسات فاشلة، أو سياسات مثيرة للجدل، مثل الكذب حول ضعف قدرات الجيش أثناء الحرب للحفاظ على التماسك الداخلي، فضلاُ عن أشكال وأنواع مختلفة من الأكاذيب مثل صناعة الأساطير القومية حول ماضي دولتهم أو قادتهم، والأكاذيب الإعلامية التي تندرج تحت بند التضليل الإعلامي، موضحاً أنّ السبب الرئيس في كذب القادة على جمهور أجنبي يعود إلى كسب تفوق ستراتيجي عليه.

اللافت في موضوع الكذب بين الدول أو على صعيد العلاقات الدولية أن يقوم به ويمارسه قادة الديمقراطيات الكبرى، مبررين أو مختلقين أسباب لخوض حروبهم في أماكن تبعد آلاف الأميال عن بلادهم، كما فعل الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، عندما شن حرباً على العراق بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل، ليكتشف لاحقاً كذب تلك الادعاءات بعد أن أدت إلى دمار بلاد بكاملها وتشريد سكانها، بينما أدت كذبات أخرى إلى عكس المرجو منها، كما حدث مع الرئيس السوفييتي خروتشوف، الذي بالغ في قدرات بلاده العسكرية مما أدى إلى سباق التسلح مع الولايات المتحدة الأميركية، وقد برر رئيس الوزراء البريطاني تشرشل ذات يوم تلك الأكاذيب حين قال: “في زمن الحرب يصبح الصدق ثميناً، لا بدّ أن يحاط بسياج من الأكاذيب”، ولكن على الرغم من أن تاريخ الكذب في الديمقراطيات الغربية طويل، إلا أنّ حبل الكذب قصير على حد قول المثل الشعبي، إذ سرعان ما ستتكشف الحقائق ويفضح أولئك القادة ولكن بعد فوات الأوان في أغلب الأحيان، ودون أن يؤثر ذلك على حياتهم 

السياسية.

لا يقتصر الكذب على تبرير حرب أو هجوم أو الذي يحمل بعداً ستراتيجيا من منظور الدولة، بل يتعداه إلى الكذب الذي يمارسه زعماء الأحزاب والقادة السياسيين ضمن البلد الواحد وضد معارضيهم السياسيين، إذ يشكل النموذج الأكثر إيذاءً لأنه يؤدي إلى العداء والاقتتال بين مواطني الدولة، حين يشحن بعض الزعماء مناصريهم على أساس طائفي، مختلقين أفعالاً وأقوالاً لا أساس لها من الصحة، أو على الأقل لم تثبت صحتها، مما يؤدي إلى تأجيج الحقد والكراهية، كل ذلك بهدف الوصول إلى السلطة والتربع على سدة المناصب، ولدينا في بلادنا العربية الكثير من الأمثلة على ذلك ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. 

يبدو أنّ الكذب تحول إلى “ملح رجال السياسة” ويمكن للمتابع أن يكتشف كل الأكاذيب التي يدلي بها الزعماء والقادة، لا سيما في الوقت الراهن، حيث التسريبات التي تنشرها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي كفيلة بكشف الزيف التي يعتري كثيراً من تصريحاتهم.

أخيراً.. يروى عن ونستون تشرشل أنه رأى يوماً شاهدة قبر كتب عليها “هنا يرقد الرجل الصادق والسياسي الناجح فلان”، فقال مندهشاً: تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها رجلان مدفونان في قبر واحد”، يبدو أنّ تلك الرواية تختصر كل ما يمكن أن يقال عن الكذب في العلاقات الدولية.