السلّة والعنب

الصفحة الاخيرة 2023/04/09
...

محمد غازي الاخرس

ويقولون: جزنه من العنب ونريد سلتنه، يعنون به اليأس من تحقق مطلب ما، فكأن القائل يطالب بسلته بعد أن يئس من العنب. وهو ما كان يحدث مع سلة العراقيين، التي دأبوا على تقديمها لوزارة التجارة منذ عام 1990 طلبا لحصة تموينية بائسة، فكانت تُعاد لهم متأخرة عن مواعيدها. وفي بعض الفترات، يضيع الحساب، فلا ندري لأي شهر يعود هذا الرز أو ذاك الطحين. 

بقيَّ هذا يحدث طويلاً حتى سنة ونصف، حين صرنا نعجب من انتظام مواعيد الحصة التموينية، أو السلة الغذائية، كما تسميها وزارة التجارة هذه الأيام. صارت تأتي كل شهر بطريقة معقولة، دون تأخير وبانسيابية تشكر عليها كوادر التجارة. وساعد هذا نوعا ما في استقرار الأسعار وتحقق أمانا نسبيا للأسر التي تحتاجها. 

بالعودة لـ (السلة)، وعنبها المنتظم، الذي لطالما شتمنا أسوده وأبيضه في الماضي، فإن التسمية صارت مرادفاً لطيفاً لما نسميه في بغداد "الحصة" أو في بعض المحافظات "الكمية" أو "الوجبة". والمقصود "كمية" المواد الغذائية التي توزعها الدولة بين الأفراد. وتجربة الحصة بدأت بعد غزو الكويت والحصار، حكاية تنذكر ما تنعاد، لمن جربها. كانت أمي مثلا تخبئ السكر في مكان لا يعرفه سواها، لأنه لا يكفي وكنت أنا المتهم الأول في استهلاكه، لأنني من شرابي الشاي النهمين. 

وحين تزوجت صارت تسلمني حصتي من السكر فقط، وتتركني أتكفل بمصيري معه، وهو الإجراء نفسه الذي عمد إليه رفاقي في السكن المشترك بعمان أيام أقمت قبل سقوط النظام السابق بسنوات. 

لقد لاحظوا أنني استهلك نصف الكمية التي نتشارك بشرائها فقالوا لي - عمي اعزل بس بالشكر، موتتنا. والحصة التموينية هذه ليست من مخترعات النظام السابق، إنما هو تدبير عالمي عرف في الحرب العالمية الثانية، وكان العراق من مطبقيه رغم أنّه لم يمثّل خط مواجهة بين المتحاربين. لكنه تأثر بالحرب وضجّ بأزمات التموين. لهذا، عمدت الحكومة إلى اعتماد آلية البطاقات لتجهيز المواطنين بالحنطة والسمن والتمور والمنسوجات والسكر والأدوية. 

ثم أقرّ مجلس النواب عام 1944 قانوناً لتشكيل وزارة للتموين تتولى "الإشراف على الاستيراد والتصدير، وتنظيم بطاقات السكر والشاي والمنسوجات والخامات وغيرها من المواد المعاشية والمنزلية والبنائية التي أخضعت للسيطرة الحكومية"، كما يقول عبد الرزاق الحسني.

 وبعد أشهر، كلف حمدي الباججي بتشكيل الوزارة فأسند حقيبة التموين لوزير الخارجية أرشد العمري وكالة، والطريف أن خلاصة المنهاج الذي ألقاه الباججي في البرلمان أن المنهاج "سيكون تنفيذيا وليس خياليا"، وأن "التموين سينظم أمره، وسيكون مطمئنا لرغائب الشعب ومفيدا وسادا لاحتياجاته سدّا كاملا". لكن في الأخير، استقالت حكومته بعد ثلاثة أشهر من دون أن تنفذ شيئاً. وبهذا أعاد السلة سريعاً دون أن يمونها لا بالعنب ولا بالحصرم. فيا رب أدمها نعمة، واحفظ "السلة الغذائية" الحالية من الزوال والخيال، واجعلها تحافظ على انتظامها الذي كسبناه مؤخرا بعد طول معاناة.