د. حامد رحيم
يجب أن نعي حقيقة اقتصادية مفادها بأن السياسات الاقتصاديَّة الكليَّة (الماليَّة والنقديَّة والتجاريَّة) يؤثر بعضها بالبعض الاخر عبر المرونة الموجودة بين الادوات، التي تستخدمها تلك السياسات في تحقيق اهدافها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، لو اقدمت السياسة النقدية على رفع سعر الفائدة في اطار التوجهات المتشددة، فإن تلك السياسة ستؤثر في الطلب الاستثماري بعلاقة عكسية مما يقود إلى خفض معدلات الاستثمار، وهذا سيؤدي إلى انخفاض عوائد الضرائب، وهنا الأثر المتحقق على السياسية المالية وسيتعدى ذلك إلى رفع مستويات الواردات، بسبب تراجع الانتاج المحلي نتيجة لانخفاض الاستثمارات وهذا الاثر المتحقق على السياسية التجارية.
في العراق الفاقد للمسارات التنموية والذي أصبح التخلف فيه متجذرات إلى حد كبير، يشهد في الوقت ذاته، نتيجة للمعطيات المشار اليها، إرباكا كبيرا في مسار نشاطه الاقتصادي، وعدم تنسيق واضح بين السياسات الاقتصادية، الامر الذي انعكس سلبا على المؤشرات الأساسية، مثل معدلات الفقر المخيفة جداً والبطالة والاحادية، بالاعتماد على الصناعة الاستخراجية والانكشاف الاقتصادي والتبعية وغيرها الكثير مما يستلزم وقفة جادة لايقاف التدهور المستمر.
في ظل ما تقدم ارتكزت السياسات في العراق على معطيات مربكة، لم يكن لها اثر ايجابي تنموي بقدر ما كانت (مسكنات) تعالج اختلالات ومطالب آنية على حساب هدر الموارد المالية المتاحة، ولعل قضايا سعر الصرف واحدة من تلك الشواهد على الادارة الفاشلة للنشاط الاقتصادي بالمعيار التنموي، ومن الأمثلة الأخرى على ذلك اهمال العوائد الضريبية، وحفز الاستيرادات وتضخيم المؤسسات الحكومية بالعاملين وغيرها لغرض مواجهة احتجاجات الشارع ومغازلة الطبقات الاجتماعية والتخفيف من السخط السياسي ضد طبقة الحكم.
ما يهمنا هو سياسيات سعر الصرف المتبعة بعد عام التغيير السياسي، التي كانت تهدف إلى رفع قيمة الدينار تدريجيا تجاه الدولار، عبر اعتبار سعر الصرف مثبتا اسميا للسياسة النقدية لغرض السيطرة على المعدل العام للاسعار، وهذا نتيجة لضعف العمق المالي وتراجع اثر سعر الفائدة المثبت الأسمي الاصلي.
إنَّ التوجه العام لمعالجة سعر الصرف في معدلها العام كانت باتجاه رفع قيمة الدينار، وإن تكللها رفع لقيمة الدولار والتي لم تكن موفقة، بسبب هدفها الاحادي الذي ركز على تحقيق عوائد مالية عالية للموازنة، واهمل الآثار الاخرى مثل رقعة الفقر ومعالجة معوقات المنظومة الانتاجية الوطنية، وعادت السياسة لرفع قيمة الدينار مرة أخرى بشكل غير مبرر تنموياً.
نظرياً لسعر الصرف اثر في معادلة ميزان المدفوعات وبالخصوص الحساب التجاري، إذ إن القيمة المرتفعة نسبيا للعملة الوطنية تحفز الواردات وتقوض من القدرة التصديرية للمنظومة الانتاجية الوطنية من السلع والخدمات المتنوعة، ما تشكل عجزا في الحساب التجاري وتحجيما للجهاز الانتاجي، والاثر السلبي يتفاقم بشكل كبير في البلدان المتخلفة، التي من المفترض أن تصبو لتحقيق بدايات التنمية الاقتصادية، فتلك المعادلة ستقود إلى ظاهرة التقوقع على الصناعة الاستخراجية الريعية على حساب ضمور النشاطات الأخرى، ناهيك عن مشكلات الانكشاف والتبعية للخارج في تلبية احتياجات السوق الداخلية، من سلع وخدمات وهذا ما يحصل في اقتصادنا الوطني، الأمر الذي رسخ التخلف الاقتصادي.
وفقا لما تقدم فإن سياسية سعر الصرف في العراق لم تكن صحيحة باعتبار الاثر التنموي المفترض تحققه، بل إن السياسات المتبعة خصوصا في الآونة الأخيرة التي بذلت الدولار عبر منافذ عديدة بشكل غير مبرر مثل السفر والبيع النقدي وغيرها كانت بالاتجاه غير الصحيح، ولم ينتفع منها الشارع البسيط في ظل الارتفاع في الأسعار، بل كانت تدر بالعوائد للمضاربين والمهربين ومافيا الفساد المستفحلة، اي انها غذت الفساد من جانب ورسخت من ظاهرة نسف التراكم الرأسمالي الركيزة الاساسية للشروع بالتنمية الاقتصادية، فما يقبض من عوائد دولارية كانت تخرج من باب كبير اسمه الواردات السلعية والخدمية بواسطة سياسات الدولار الرخيص.
أما ما يثار من كلام بأن لا سبيل غير ذلك للسيطرة على الاسعار فنقول نعم هذا صحيح، لكن بعد عشرين عاما على يد ذات الادارة المهيمنة على الموارد، فأين الخطوة الستراتيجية الاولى عبر كل تلك السنين لايجاد الحل التنموي؟ بل يبدو أن هناك ارادة لاستدامة سياسة الدولار الرخيص، كونها منفذا ومنهلاً للفساد على حساب مواردنا الاقتصادية وحقوق الاجيال الحالية والقادم، وحتى اجراءات الحوكمة التي (فرضت) من الخارج في ظل غياب الارادة الوطنية تبقى قلقة، وسيجد الفساد المحمي سياسيا طرقا اخرى للتحايل على المال العام، فالإرادة الوطنية هي الحل والتي لا تزال غائبة عن المشهد.