{مثلث الحزن} الفيلم الفائز بسعفة كان الذهبيَّة لعام 2022

منصة 2023/04/09
...

  وداد سلوم


 هذا العالم المتجهم لم يعد مثلث الحزن وسط جبينه بل يحيط به من كل الجهات ليس لأنه يتأرجح على نواس حرب عالمية ثالثة لن تكتفي بالأسلحة التقليدية وحسب، بل أيضاً لأنه ينتج هذا الحزن عبر تصاعد أزماته الاقتصادية والأخلاقية العابثة حتى بصحته وما يتبعها من اغتراب الإنسان الحديث وكآبته. 


 لتصبح الأسئلة حاضرة ابداً: ماذا لو؟ ما الذي سينقذ البشر؟ وكيف؟ ما قيمة الثروة والاختراعات وما يتم تخزينه من طاقة؟

مثل هذه الأسئلة وغيرها كثيرة يستفزها ويثيرها لدى المشاهد، فيلم "مثلث الحزن" الحاصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان لعام 2022. 

وهذا ما أراده في الحقيقة المخرج السويدي روبين اوستلوند الذي نال جائزة أفضل مخرج وكاتب سيناريو، إذ أعرب عن ذلك صراحة في احد لقاءاته الصحفية: "أردنا صنع فيلم مثير للجمهور وتقديم محتوى مثير للتفكير، أردنا الترفيه عنهم، أردناهم أن يسألوا أنفسهم أسئلة، وأن يخرجوا بعد العرض ويكون لديهم شيء يتحدثون عنه". وهذا يسجل له فالخروج من المتعة إلى التفكير لدى المشاهد هو ما يجعل الفيلم حدثاً لا ينسى.

صُنف الفيلم بالكوميديا السوداء، ونال جائزة ثالثة أيضاً وهي أفضل ممثل للنجم لزلاتكو بوريتش.

يبدأ الفيلم بتجربة أداء يقوم بها عارضو أزياء. ومنذ البداية يشعر المشاهد بتمرير تلك الانتقادات اللاذعة للحياة في بلدان الغرب حيث الحضارة والرفاهية وكيف حولت الإنسان إلى منفعل ومنفذ كليشات جاهزة تتخذها الشركات الرأسمالية الكبرى علامة لها فسلبته خصوصيته ودمغته بدمغتها ليصبح كالروبوت الذي تتحكم به ويتم تشذيب انفعالاته وتعابيره الجسدية لتتناسب معها إذ تتغير تعابير وجوه العارضين الشبان من الفرح والابتسام والوداعة إلى التحدي والنظرة النافذة والجريئة وذلك في انتقالهم من إعلان شركة أزياء إلى أخرى، يحدث الأمر بثانية واحدة في لقاء تلفزيوني على سبيل الدعابة.

في حين فرضت المفاهيم الجديدة نفسها في لغة العصر عبر جملة التغيرات السريعة المرافقة للتطور الحضاري في الحياة البشرية الممزقة بين الرغبة بما يلبي الحياة الروحية وبين الانقياد للشعارات الرائجة والمعبرة عن تلك المفاهيم.

كمفهوم النسويَّة، فنرى في المشاهد الأولى كيف يتم الاحتفال بتلطيخ أجساد العارضين بألوان مختلفة تعبيراً عن هدم السلطة الذكورية والنيل منها، بينما يقف الرجال مبتسمين لذلك ومستسلمين له، رغم أن هذا لا يعني الانصياع له، بل هناك مسحة من الاستخفاف بالفعل تعلو الوجوه.  

ثم التردد والحيرة وعدم القدرة أحياناً على مجاراة الإنسان للإشارات المتداولة والمستجدة عن سلوكيات يومية، فحين يقوم كارل بتجربة أداء لإعلان العطور نرى أنه لا يجيد الحركة والسير وفق أساليب العرض الحديثة التي تدمج الفن بحركة الجسد، وحين ترشده اللجنة تنبهه للتخلص من مثلث الحزن في جبينه. وهو التعبير عن غربة الإنسان الأوروبي عموماً وكآبته في العصر الحديث وعليه تعلم طريقة الابتسام وإزالة مثلث الحزن (عقدة الحزن) للحصول على فرصة جيدة.  

لعلها إشارة أيضاً إلى القارة الأوروبية العجوز والتي عليها تغيير أسلوب حياتها التقليدي القديم للاندماج في عجلة الأحداث العالمية واستعادة دورها كفاعل قديم وأساسي فيها؟ 


كارل ويايا 

عنوان الجزء الأول من الفيلم، والحقيقة تقسيم الفيلم إلى أجزاء يثير التساؤل هل هو تقسيم زمني يراعي التطور في علاقة الشابين كارل ويايا عارضي الأزياء؟ ام هو طريقة للانتقال من الواقع إلى اللامعقول ودمجهما في قصة الفيلم.

اللامعقول هنا ليس بمعنى المبتكر، ولكن غير الوارد حدوثه هذه الأيام.

في هذا الجزء نرى كارل وحبيبته يتشاجران بسبب دفع فاتورة العشاء، ليس لأن أحدهما لا يملك المال، بل لأن كارل يريد أن يعيش أفكاره العصرية فإن دعته صديقته الحميمة على العشاء عليها أن تدفع ولا تتهرب من ذلك. بينما يايا تفكر كامرأة تعيش على الأرض وليس في المفاهيم. وتتجاذبها مخاوف كعدم الأمان رغم الثروة التي تحصّلها من عرض الأزياء، والظهور على وسائل التواصل، فلو أنجبت ستفقد عملها، لأن الحمل سيغير جسدها، ولن يعود صالحاً كأداة عرض وستعود للسعي لكسب العيش ولن تحميها شعارات النسويَّة.

إنها تقوم بمحاولة التوفير لتضمن الاستقرار، ولو قامت في سبيل ذلك بالمراوغة في علاقتها، بينما كارل يريد التعامل معها كندٍّ وفق أفكاره العصريَّة.

ينسجم أو يعبر موقف كارل عن الثقافة الغربية التي بنت هرمها المتصاعد بعيداً عن الضرورة الأرضية التي كانت تضع الإنسان تحت تأثير قوى الطبيعة والمرأة الرمز للطبيعة وتطورت بتكريس مفاهيمها في الحياة الروحية والقوانين التي تحكم الممارسات ولم تتوقف عند حد أو مقدسات. تقول كاميلي باليا في كتابها أقنعة جنسية: "اخترع الرجال الثقافة كدفاع ضد الطبيعة الأنثوية، وكانت العقيدة السماوية هي الخطوة الأكثر حنكة في هذه العملية وما تحويلها الموقع الابداعي من الأرض إلى السماء إلا تحول من سحر البطن إلى سحر الرأس ومنه جاء مجد الحضارة الذكورية".

فالرجل في الثقافة الغربية اخترع كوناً بديلاً يمنحه التحرر من الطبيعة ومن سطوة الأفكار الأمومية المرتبطة بالطبيعة، بينما المرأة التي تأثرت بذلك وبالصعود الدرامي للفكر الغربي سوف تبقى مشوشة، إذ ورثت ما تسميه كاميلي باليا قلق التأثر. فالفكر الغربي لم يمنحها حقوقها ولا الأمان.


اليخت  

يربح الشابان رحلة باهظة على يخت فاخر إلى جانب أثرياء من العالم. لا أحد يعلم هدف الرحلة، لكنه يصور لنا عالم الثراء الفاحش، والأثرياء المتاجرين والمتحكمين بكل شيء ولا يقبلون أن يتم رفض رغباتهم حتى أن إحدى الثريات تطلب من طاقم السفينة ترك عملهم والقيام بالسباحة، لتجربة شعور التلذذ باللحظة كما تعيشه هي.

ويُرغم الجميع على التنفيذ فليس من حق أحد الاعتراض على رغبة الزبائن- الأثرياء كما أن هذا أحد شروط الخدمة على متن اليخت.

ينتهي حفل عشاء القبطان المعد للترحيب بالركاب كما تجري العادة، نهاية مأساوية، حيث يتم تقديم الاطعمة الغريبة، لكن الجميع يتعرض لنوبات الإقياء والاسهال، ولا نعرف السبب أهي نوبات الدوار البحري أم هو تسمم بسبب فساد الطعام إذ تركه الطهاة، وقاموا بالسباحة تحت إصرار الثرية الروسية، في إشارة إلى اللا مسؤولية في القرارات التي يتخذها الأثرياء ويحصد الجميع نتائجها.

 يغادر المدعوون المكان وهم يعانون ويتمرغون بقذارتهم. بينما يبقى في الحفل: الروسي (الشيوعي السابق) وهو أعظم الأثرياء ويريد شراء اليخت وقد بنى ثروته من تجارة الغائط على حد تعبيره (السماد) والقبطان الأمريكي الذي قضى نصف الرحلة يعاني من سوء حالته ويبدآن الحوار عبر المنافسة بالشراب، وتذكر أقوال مفكرين وشخصيات عالمية، الحوار الذي يتطور ويمتد، فنرى أنهما نهران يصبان في مجرى واحد، يعبثان ويلعبان، يشربان ويتلذذان بالحماس الذي يمتلكهما لمشاكسة أحدهما الآخر. فينتهيان لإثارة الرعب والذعر في صفوف الركاب حين ينتقلان إلى قمرة القيادة ويغلقانها على أنفسهما، بينما الميكرفون مفتوح على غرف الركاب   الذين يجاهدون قاذوراتهم في اختلال توازن اليخت، يذيع الروسي سيغرق المركب.. ثم يتراجع عن ذلك ساخرا من الجميع.

نلاحظ أن كلا من الروسي والأمريكي ينهلان من ذات النبع ويتهكمان بالطريقة نفسها وينجران وراء رغباتهما من دون إحساس ببقية الركاب بينما القارب يعوم بالقاذورات كناية عن مجتمع الأثرياء الفاحش والذي يعوم بالقذارة من كل نوع ليس أولها إشعال الحروب.


الجزيرة 

هل هم القراصنة الذين فجروا اليخت؟ ولماذا؟ من هم هؤلاء القراصنة؟

هل اليخت هو الأرض المهددة بالانفجار والعودة إلى البدائية بفعل عبث اللاعبين الأساسيين الأمريكي والروسي؟ أسئلة لا شك ستراود المشاهد من دون أن تحصل على أجوبة، فالأجوبة هنا لا تشكل أي فارق لكن النتائج هي التي تفعل.

من المفارقات الحاصلة والتي أدرجت الفيلم تحت الكوميديا السوداء يتم تفجير اليخت بقنبلة، ونعرف أن على متنه أسرة بريطانية بنت ثروتها من صناعة القنابل وترويجها في العالم.

يتم ذلك بينما الكل يغرقون في آثار الحفل ليحمل الموج الناجين إلى جزيرة بعيدة وهذا هو ما قصدنا باللا معقول الساخر، في تكرار قصة روبنسون كروزو، والتي تناولتها قصص وافلام كثيرة عن الاحتجاز في جزيرة ليقف الإنسان في مواجهة الطبيعة حيث يجرد من أدواته وهنا يطرح السؤال ماذا تنفع الثروة في مكان منعزل ووحشي وحيث تكون المواجهة مع الفناء. 

ويا للسخرية فإن الناجين الاثرياء لا يعرفون المبادئ البسيطة للحفاظ على الحياة كإشعال النار والصيد بينما تقوم بذلك (أبيغايل) العاملة على اليخت في تنظيف الحمامات وتجد فرصتها للسيطرة عليهم وأخذ القيادة بمساومتهم على الطعام الذي تصطاده، ثم على الحب، فتأخذ كارل من حبيبته لينام معها في الطوف المغلق والذي وصلت فيه إذ جرفها الموج.

 اببغايل قوة العمل التي تستطيع أن تبني الحضارة من جديد لكنها ستتجرأ على الانتقام من المجتمع الذي استغلهم واستعبدهم. فعمال الخدمة المتوارون في أسفل اليخت ولا أحد يراهم أو يشعر بهم سينجون ليعيدوا رسم الحياة.

تثير العلاقة بين القائدة الجديدة وكارل الجميع وتجعل يايا تخرج عن طورها فتقرر القيام برحلة لاستكشاف الجبل، لكن ابيغايل تصر على مرافقتها لتجدا أنهم في الواقع ليسوا في جزيرة مهجورة وإنما على اطراف منتجع عالي الرفاهية، تنادي يايا لابيغايل للدخول إلى المصعد والخروج من المأزق الذي يعيشونه، تتردد ابيغايل فانتهاء الأزمة يعني انتهاء قيادتها. تطلب من يايا وقتا للتبول قبل الصعود لكنها تحمل حجرا لقتل يايا وقتل الخلاص الذي سيسلبها مكانتها 

الجديدة.

رغم أن يايا لا تدير وجهها إلى ابيغايل لكنها وكمن يحدس بما تريده ابيغايل تحاول تقديم اغراءات لها فتعدها باستخدامها كمساعدة لها حين العودة لنرى ابيغايل وقد ظهر وجهها الهرم المتعب والقاسي والقادر على كل شيء من اجل أن يغير النهاية لصالحه.

قامت بدور يايا الممثلة الشابة تشارلي دين وقد اهدى المخرج جائزته لها إذ توفيت عن عمر ناهز الـ 32 عامًا بشكل مفاجئ.

لن تفوتنا الإشارة إلى الشخصية الثرية الالمانية والتي أصيبت بسكتة دماغية سبب لها شلل الجزء الأيسر من جسدها فباتت عاجزة حركيا ومصابة بتلعثم الادراك اللغوي، إذ تردد نفس العبارة للتعبير عن كل شيء، وحين تنجو يتركونها في القارب حرصاً على سلامتها، وأثناء ذلك يمر بائع متجول لكن عدم قدرتها على التفاهم معه بسبب إعاقتها اللغوية يسلب أمل النجاة.

ترك المخرج النهاية مفتوحة فكل ما ورد تحذير للبشريَّة الذاهبة من دون تردد إلى مآزق لا يمكن التنبؤ بنتائجها من خراب ودمار وموت في سباق الدول العظمى المحموم.

لا نعرف نهاية يايا ولا ابيغايل، لكن المشهد الأخير لكارل الذي يصعد الجبل خلف يايا حبيبته وابيغايل التي سيطرت عليه وابتزته جنسيا. راكضا تضربه الأغصان والاشواك تدمي وجهه.

مشوار طويل ومؤلم إذاً يبدؤه كارل لإنقاذ الحب الذي حمل الخلاص وخوفا عليه من صراعه مع الرغبة التي استعبدته.

ولعله ما على القارة العجوز البدء به، لإنقاذ نفسها من النهايات التي تمرغ أنفها بالوحل.

تسيطر الفكرة على الفيلم ويبدع الكاتب المخرج بدعمها بالتفاصيل التي توسع أفق المشاهد وتستفزه وتضحكه أحياناً، إذ تشده الغرابة في جو الفيلم طوال الوقت حتى لا يعود للانتباه مثلا إلى الموسيقا التصويرية، بينما لا يتوقف عن طرح الأسئلة في متابعة الأحداث التي تفاجئه 

دوماً.

وهو ما يجعل المتعة مضاعفة في فيلم مثلث الحزن الطويل والذي قاد المخرج لينال سعفة كان الذهبية للمرة الثانية خلال تاريخه.