فخ لبايدن يلوح في أوكرانيا

قضايا عربية ودولية 2023/04/09
...

• جورج بييب

ترجمة: أنيس الصفار      

ثلاثة عوامل كبيرة تتحرك بلا توقف هي التي ستحدد صورة أفق الحرب في أوكرانيا. كل عامل من هذه له انعكاساته على العاملين الآخرين بشكل يعززهما، ومن المحتمل أن تنتج عن العوامل الثلاثة مجتمعة عما قريب ديناميكية تقيد إلى حد بعيد قدرة إدارة بايدن على توجيه دفة الأحداث صوب النتائج المتوخاة.

العامل الأول هو مسار تطورات الموقف على ساحة المعركة. فالقوات الروسية، التي اكتسبت دعماً وتعزيزاً من عملية التعبئة التي أعلنها بوتين في الخريف الماضي، تواصل الضغط مقتربة أكثر فأكثر من تحقيق التطويق الكامل لمدينة باخموت بينما يبدو الأوكرانيون مترنِّحين على حافة أول انتكاسة كبيرة لهم منذ الصيف الماضي. هذه المعركة، رغم ما ثبت من بطئها وارتفاع تكاليفها على الروس، لها أيضاً أعباؤها الجسيمة على الأوكرانيين.

تفيد صحيفة "واشنطن بوست" بأن الدفاعات الأوكرانية تعاني من نقص جدّي في الذخائر والجنود ذوي الخبرة، وهما جانبان يجد الغرب نفسه في موقف ضعف إزاء تداركهما بشكل عاجل، لأن إرسال قوات أميركية أو تابعة لحلف الناتو ينطوي على خطر المواجهة المباشرة مع الجيش الروسي وما يتبع ذلك من احتمالات التصعيد الذي قد يبلغ حد التصادم النووي. كذلك يستمر انحسار الإمدادات بقذائف المدفعية والصواريخ التي تتطلبها الحرب، وهو أمر ستكون له تداعياته وآثاره على الجاهزية العسكرية للولايات المتحدة في أماكن أخرى من العالم. لقد بات جلياً أن الولايات المتحدة وحلفاءها لم يعد بوسعهم دفع عجلة الصناعات الدفاعية بالسرعة المطلوبة لسد احتياجات أوكرانيا العاجلة.

هل ستثبت الأحداث أن استيلاء الروس على مدينة باخموت تحوّل محوري يتبعه كسب مزيد من الأراضي الأوكرانية؟ هذا أمر خاضع للنقاش، بيد أن الحروب لا تُكسب دائماً بالاستيلاء على نقاط فوق الخارطة، فإنهاك قدرة الخصم على الزج بالمزيد من القوات المقاتلة والإمدادات قد لا تقل فعالية عن ذلك. في حرب الاستنزاف تمتلك روسيا قاعدة أكبر بكثير من تلك التي تمتلكها أوكرانيا من حيث القدرات البشرية والصناعة العسكرية بوسعها أن تسحب منها كما تشاء. وحتى لو نجحت أوكرانيا في صد الهجوم الروسي على باخموت فإن مراهنة الرئيس الأوكراني زيلنسكي على الزج بموارده المحدودة في عملية دفاع شاملة عن المدينة قد تنتهي بشل قدرة أوكرانيا على شنِّ هجوم مضاد فعَّال في مواقع أخرى وتحقيق الهدف الذي تعهَّد به وهو استعادة كافة الأراضي التي تحتلها روسيا، بما فيه شبه جزيرة القرم.

العامل المتحرك الثاني لا يقل عن الأول إنْ لم يفقه من حيث الأهمية، وهو السياسة الداخلية للولايات المتحدة. فعلى مر الأشهر كان الرأي الشعبي الأميركي بخصوص الحرب يزداد استقطاباً، حيث يبدي الجمهوريون بشكل متزايد تشككاً في أهداف الولايات المتحدة من الحرب ومدى الدعم الأميركي لأوكرانيا. فقبل عام كانت نسبة تقل عن عشرة بالمئة من الجمهوريين تعتقد أن الولايات المتحدة تقدم "دعماً زائداً" لأوكرانيا، أما اليوم فقد ارتفع هذا الرقم حتى قارب خمسين بالمئة، وفقاً لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة كوينيبياك. على عكس ذلك تعتقد نسبة مقدارها اثنان وستون بالمئة من الديمقراطيين أن الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة "ضمن الحدود المناسبة".

هذا الانقسام بين الحزبين يمكن أن يتعمَّق مع ورود تقارير أكثر وضوحاً من ساحات المعارك لتثلم حِدَّة التفاؤل الأميركي، وكذلك الأمر مع تصاعد حرارة حملة الانتخابات الرئاسية للعام 2024. حيث دعا كلٌ من حاكم فلوريدا "رون دي سانتس" والرئيس السابق "دونالد ترامب" – اللذين يمثلان مجتمعين الخيارات المفضلة حالياً لأكثر من ثلاثة أرباع الناخبين الجمهوريين – بصراحة إلى "السلام" في أوكرانيا مع معارضتهما لتورط أميركي أعمق هناك، وهو موقف يتناقض مع موقف "الصك على بياض" الذي يتخذه بايدن في تمويل السعي وراء أهداف غير محددة أو غير قابلة للتحقيق. لقد كسبت سياسة بايدن في أوكرانيا دعماً كاسحاً من الحزبين على مدى السنة الماضية، لكن الاستمرار فيها قد يواجه معارضة سياسية متصاعدة مستقبلاً.

مع احتدام الجدل بشأن أوكرانيا داخل الولايات المتحدة بدأ لاعب فاعل آخر ينشط في الساحة وهو الصين. فقد ادعت الولايات المتحدة، بناء على معلومات استخبارية لم تكشف عنها، أن الصين تدرس مسألة تزويد روسيا بالمساعدات العسكرية، ووجهت إلى بكين تحذيراً علنياً بضرورة الامتناع عن ذلك. أبان ذلك، وعلى ضوء لقاء الرئيس الصيني شي بالرئيس الروسي بوتين في موسكو مؤخراً ومشاوراته هاتفياً مع الرئيس زيلنسكي، رفض بايدن وكبار مسؤوليه خطة السلام الصينية التي كُشف النقاب عنها مؤخراً بشأن أوكرانيا بدعوى أن ميل بكين إلى جانب روسيا يفقدها أهليتها كوسيط محتمل.

رغم مخاوف الولايات المتحدة فإن من المستبعد أن تقوم الصين بتقديم دعم عسكري مؤثر لروسيا في وقت قريب، لأن مثل هذه المساعدة من شأنها إلحاق ضرر كبير بمكانة بكين لدى أوروبا، التي تعد من أهم الشركاء التجاريين لبكين في وقت تتصاعد فيه مشاعر التوجّس الاقتصادي. قد يكون الرئيس شي مستعداً للمغامرة بهذه العلاقات إذا ما اعتقد بأن روسيا معرَّضة لخطر خسارة الحرب ولكن لا توجد دلائل على أن لدى بكين اعتقاد بأن مثل هذه النتيجة شيء وشيك.

رغم هذا تبقى لدى الصين فرصة للعب دور صانع السلام أعظم مما قد يبدو لأغلب من في واشنطن، لأن الصين تتمتع بنفوذ كبير على روسيا نظراً لأن انزلاق بوتين في أوكرانيا جعل روسيا شديدة الاعتماد على بكين في الجانبين الاقتصادي والجيوستراتيجي. فبعد أن أثار بوتين مشاعر النفور والتباعد لدى الغرب لم يعد بوسعه رفض الاستجابة لأهم شريك دولي له إذا ما أصر عليه هذا بالجنوح إلى المحادثات. بعكس ذلك تدرك أوكرانيا دون ريب أن تفكير الصين في تقديم الدعم العسكري لروسيا يمكن أن يكون حاسماً في تحديد نتيجة الحرب. محاولة بكين تولّي دور الوسيط يمكن أن تكون لها جاذبيتها في كييف إذا ما اعتقد الأوكرانيون أن واشنطن ليست لديها الرغبة في تحقيق النصر في ميدان المعركة ولا القدرة على دفع روسيا إلى تقبُّل التسوية.  

ما الذي يمكن أن ينتج عن هذه العوامل مجتمعة؟ لقد كانت إدارة بايدن تستند منذ وقت طويل إلى حجة أن موقف أوكرانيا التفاوضي سوف يصبح أقوى مع مرور الوقت، وأن قرار التفاوض يجب أن يُتَّخذ في كييف لا في واشنطن، وأن روسيا لن تحضر إلى طاولة المفاوضات إلا بعد أن تفقد قدراً ملحوظاً من الأراضي التي تحتلها حالياً. بيد أن أوكرانيا قد تخرج مع حلول الصيف بأوراق تفاوضية أضعف نظراً لركود وضعها في ساحة المعركة وتآكل ثقتها بدوام الدعم الأميركي. لذا قد تجد كلٌ من أوكرانيا وروسيا، ولأسباب متباينة، في الصين جاذبية متزايدة كوسيط مستقبلي محتمل، حتى لو لم يكن لدى أي منهما الاستعداد بعد لتقديم تنازلات مهمة. أما واشنطن، التي لا ترى للصين مثل هذه الجاذبية، فقد تبقى تمارس دور المحبط لأية عملية سلام تنطلق برعاية صينية طالما بقيت محتفظة بقوة ضغط مؤثرة على أوكرنيا. لكن، هل لدى بايدن الرغبة والاستعداد للمجازفة بمواجهة التداعيات المستقبلية المحتملة محلياً ودولياً إذا ما بقي بمظهر المعارض للتسوية؟

لم يفت الآوان بعد بالنسبة لإدارة بايدن للعثور على مخرج من هذا الفخ المستقبلي، وذلك بالحثِّ على التفاوض مع روسيا. مثلاً قد يساعد إرسال ‘إشارات خفية إلى موسكو بوجود استعداد من جانب واشنطن لمناقشة القضية الشائكة المتمثلة بانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو - وهي القضية التي اعتبرها بوتين سبباً محورياً للحرب بينما بقي بايدن يرفض مناقشتها - على تغيير هذه الديناميكيات ويعيد تكييف موقف روسيا باتجاه القبول بالتسوية.

لكن ليس من السابق لأوانه القول إن نافذة الفرصة أخذت تضيق أمام الدبلوماسية الأميركية إلى حدود الخطر. 


• عن مجلة "رسبونسبل ستيتكرافت"