تاريخ بلبل الإذاعة العراقيَّة هل أهدى أدولف هتلر للملك غازي بلبل الإذاعة 1936؟ تصويبُ معلوماتٍ صدرتْ من جهاتٍ رسميَّة!

منصة 2023/04/10
...

  أ.د. سيّار الجميل 

لا يمكن أبداً توظيف أكذوبة شعبيَّة وهي أحجيَّة يتداولها الناس في المقاهي لتستخدم معلومة رسميَّة يتبناها  متحف الإعلام العراقي .. أتمنى مخلصاً أن تعالج هذه المؤسسة مثل هذا الخطأ وتصحّحه بحذفه نهائيَّاً.. فمن المعيب جدّاً تسويق الأكاذيب رسميَّاً أمام العالم.. كنت أتمنى أن يتم البحث عن الحقيقة بدقة لوجودها من دون  تبنّي هذه الأكذوبة التي لا أساس لها من الصحة أبداً. إنَّ تاريخ العراق لا يُشرِّفه أبداً أن يتلقى هديَّة من هتلر. فلماذا يتم ترويج مثل هذه الأكاذيب؟

فاتني أن أذكر شيئاً عن بلبل الاذاعة العراقيَّة في مقالتي التي نشرتها يوم الاثنين المنصرم 3 أبريل / نيسان 2023 في صحيفة "الصباح" الغراء بسبب ضيق المجال، ودعوني أتحدث اليوم عن هذا البلبل الذي بقي صوته مغرّداً لمدة 5 دقائق عند الفجر وقبيل بدء البث يوميا عند الساعة السادسة فجراً في راديو إذاعة بغداد لضبط وقياس أعلى وأدنى ذبذبة للموجات الصوتيَّة لغرض تثبيت المستوى الصوتي للمرسلة الاذاعيَّة.. وبقي صوت البلبل يبدأ كل يوم منذ افتتاح المحطة عام 1936  وحتى العام 2003. ولقد تعوّد العراقيون عليه وأحبوه عبر مرور أجيال بعد أخرى، إذ بقيت تحترم هذا التقليد الجميل وبقي وحده صامداً أزاء كل عواصف الأنظمة السياسيَّة التي حكمت البلاد، وكلها زالت، ولكنّه بقي يغرّد بصوته عند فجر كلّ يوم. إنّه صوت بلبل صناعي صنع من النحاس وبشكل مجسّم يتواجد داخل قفص نحاسي أيضا.. بقي في مؤسسة الاذاعة والتلفزيون في الصالحية حتى العام 2003 عندما تعرّضت المؤسسة للنهب والتدمير والاستلاب، فسرق مع جملة هائلة من المسروقات وأهمها ارشيف الاذاعة والتلفزيون الذي لا يقدر بثمن! وقد تمّت استعادة هذا "البلبل" من الاردن من قبل الاستاذ خطاب عمر وترميمه على قاعدة مطلية وحفظه في متحف الاعلام العراقي اليوم.. وفيه يجد القارئ الكريم صورته ولوحة كتب عليها: بلبل الاذاعة: قطعة نادرة أهداها الزعيم الالماني هتلر إلى الملك غازي بمناسبة افتتاح اذاعة الزهور عام 1936، سرقت عام 2003 واستعادها السيد خطاب عمر، وأهداها إلى متحف الاعلام 2021".  وثمة لقاء تلفزيوني مع مديرة هذا "المتحف" السيدة ميرا أمير الحلو، قالت فيه: هذا البلبل اهداه الزعيم هتلر إلى الملك غازي، وقد صنع منه اثنان واحد في برلين واخر في بغداد! وقد اعطاه الملك إلى الاذاعة من قصر الزهور.. الخ. انظر القصة المكذوبة كيف تفرعت عنها أكاذيب أخرى، وغدت تحكى على المستوى الرسمي وليس مجرد حكاية عادية يتناقلها الناس.. وكيف يتداولها المسؤولون في متحف للإعلام العراقي من دون أي تحقق من الخبر، ومن دون مراجعة اي مسؤول سابق للتأكد مما يقولون أو يعلنون أو يتناقلون كذباً وبهتانا..  

ولا أعرف المصدر الموثوق الذي اعتمده بعضهم عندما قالوا بأن الزعيم النازي الالماني ادولف هتلر قد أهدى هذا البلبل إلى الملك غازي ملك العراق لمناسبة افتتاح الاذاعة العراقية.. ومتى شاعت الكذبة وأخذها هذا عن ذاك؟ ولماذا يتم تداولها رسميا كتابة وشفاها للتعريف بالبلبل في متحف للإعلام العراقي؟ هذه الاكذوبة تناقلتها الاخبار والفيديوهات، وهي تقول بأن متحف الاعلام العراقي يضم بلبلاً أهداه هتلر للملك غازي وكتبت جهة أخرى: "ومن المقتنيات، بلبل ذهبي في قفص ذهبي أهداه زعيم ألمانيا النازية أدولف هتلر للملك غازي ملك العراق آنذاك"!! 

انظروا إلى المبالغة واتساع الاكذوبة من نحاسي إلى ذهبي!  وان الاذاعة العراقية يسمونها اذاعة الزهور، وكأنهم لا يدركون أن اذاعة بغداد هي غير اذاعة الزهور الخاصة بالملك غازي!!  وجاء في مكان آخر: "وقد كان صوت البلبل يستهوي الناس، ويبعث في نفوسهم الأمل والتفاؤل في بداية يوم جديد مشرق، والكثير كان يظن أنه صوت بلبل حقيقي.. والبعض كان يقول إنه جهاز امريكي مصنوع عام 1890، وقيل أن هذا البلبل هو مجرد تسجيل أهدته إحدى الشركات اليابانية للإذاعة العراقية بعد أن اشترت منها مجموعة من الأجهزة الإذاعية.. بينما قال آخرون إنه بلبل إنكليزي حقيقي، وإنه يقيم في بيت الملك يطعمونه ويسقونه ليغرّد للعراقيين صبيحة كل يوم "ويكمل المقال توصيفه قائلا: "ولكن الحقيقة أن بلبل الاذاعة هو تمثال وتحفة فنية صنعت منها نسختان  وقدمت أحداها هدية من قبل الزعيم الالماني ادولف هتلر  إلى الملك غازي سنة 1936 بمناسبة افتتاح اذاعة قصر الزهور ويوجد على التمثال رقم متسلسل (سيريال نمبر) يؤكد اصالة هذه التحفة.. وقد قام الملك غازي باهداء هذا التمثال إلى الاذاعة العراقية بمناسبة افتتاحها في تموز 1936".  من صاغ كل هذه الاكاذيب؟ وكم في تاريخنا العراقي المعاصر من الاخيلة والصور التي لا حقيقة لها ابداً؟  

ومن الطرائف المضحكة التي يرويها الاستاذ ابراهيم الزبيدي في كتابه (دولة الاذاعة.. سيرة ومشاهدات عراقية) وكان مذيعا مرموقا لسنوات طوال: أن احد المدراء لم يكن يعرف تفاصيل صوت البلبل، وكان يعتقد بأنه صوت لبلبل حقيقي قد تدرّب على التغريد قبل افتتاح الاذاعة وعليه، فقد استغل الفنيون من العاملين سذاجة هذا المدير، فكانوا يطلبون منه (ربع دينار) يومياً من النثرية كنفقات أكل للبلبل، لأن الميزانية ليس فيها أي  بند يتضمن "أكل البلبل" وكان مبلغا كبيراً عند مطلع الاربعينيات، وقد استمرت الحال هذه إلى أن زار نوري السعيد رئيس الوزراء آنذاك الاذاعة ذات يوم، واستفسر عن  المخصصات الإضافية التي خصصتها الحكومة لتطوير الاذاعة.. فاجابه المدير أنها نفدت لأن المسؤولين في وزارة المالية نسوا أن يضعوا بنداً باسم (مخصصات أكل البلبل) وشرح له الحكاية، فضحك نوري السعيد، وقال له: إن (الملاعين) خدعوك، وأعفاه من المهمة!  ويقول الاستاذ حافظ القباني في كتابه "الاذاعة العراقية: تاريخ وذكريات" (المنشور 2006) بعناية ومراجعة وتقديم: ابراهيم الزبيدي، وكان القباني أحد المذيعين المعروفين فيها أيضا: "هذا البلبل الغريد دخل مع زميل له إلى بغداد في سوق أو مخازن التاجر العراقي حسو اخوان الواقع في شارع الرشيد، إلا أن الفنانة المعروفة عفيفة اسكندر أشترت البلبل الثاني، فيما اشترت الاذاعة العراقية البلبل الأول الذي استلم واجبه التغريدي بعد مرور شهر على تأسيس الاذاعة العراقية، وقد بقي موضع رعاية واهتمام كل المذيعين.. " (ص 53). اتصل بي الصديق الاستاذ وليد شعبان وأرسل لي ما كان قد أرسله له من نيوزيلاندا الاستاذ يحيى سلمان الصفواني لينقل لي وثيقة دامغة مع بعض الصور، والوثيقة تمثل وصل شراء بلبل الاذاعة من محلات حسو اخوان في شارع الرشيد عام 1936، أرفق صورتها مع هذا المقال، وبدا واضحا أن الوثيقة كانت من مقتنيات الاستاذ سلمان الصفواني الذي كان قد عُيّنَ بمنصب مدير الاذاعة عام 1936 والقى نشرة اخباريَّة في اليوم الاول من افتتاحها التجريبي..  فهل سيبقى العراقيون يتناقلون خبراً مكذوباً لا أساس له من الصحة أبداً؟، وهل سيغير متحف الإعلام العراقي إعلانه الذي لم يزل مرافقا للبلبل وقفصه؟ وهل سيترك الناس هذه الاكذوبة وغيرها من الاكاذيب المتداولة في تاريخهم المعاصر؟ أتمنى ذلك من صميم القلب. 

* مؤرخ عراقي