ميادة سفر
وفرت منصات التواصل الاجتماعي من فيسبوك وتويتر وغيرها من وسائل إلكترونية مساحات من الحرية لشريحة واسعة من المستخدمين، عبر إتاحة المجال أمامهم للتعبير عن آرائهم في شتى المجالات، لا سيما تلك التي لم يكن بالإمكان الاقتراب منها في الواقع، بسبب التابوهات التي فرضتها السلطات السياسية والدينية والاجتماعية على الأفراد، والتي تنضوي تحت ثالوث السياسة والدين والجنس، فكان الفضاء الإلكتروني بمنصاته المختلفة حيزاً للحرية الفكرية والتعبيرية في ظل القمع والملاحقة، التي قد يتعرض لها كل من تسول له نفسه الاقتراب من الأماكن المحظورة.
غير أنّ الممارسات عبر المنصات الاجتماعية لم تكن وردية بشكل كلي، إذ يبدو أن الحياة الواقعية انعكست على تلك الافتراضية، وتمكن البعض من التسلل إلى الفضاء الرقمي ليمارس سلطته وتسلطه، من خلال قمع تلك الحريات والتنمر الإلكتروني والتشهير وانتهاك خصوصية المستخدمين واستخدام صورهم لابتزازهم والتنكيل بهم إلكترونياً وواقعياً، وتشكل النساء النسبة الأكبر من المستخدمين الذين يتعرضون لتلك الأشكال من الممارسات، فضلاً عن الملاحقات التي تطول المشتغلين في الشأن العام الذي يلقون الضوء على مكامن الفساد وينقلون معاناة الناس.
تلجأ الكثير من السلطات في العديد من الدول، الديمقراطية منها وغير الديمقراطية إلى سياسة الإغلاق الذي يستهدف بعض الشبكات والمواقع والمنصات الإلكترونية، لا سيما في وقت الأزمات السياسية والأمنية وحتى الاقتصادية منها، حين تستشعر تلك الأنظمة أنّ سلطتها وأمنها، بات مهدداً وفي خطر بسبب تلك المواقع مما نشر أو قد ينشر من معلومات من شأنها تغيير الواقع والرأي العام بشكل يؤثر على الكثير من الأحداث الجارية، فتلجأ إلى حجب مواقع ومنصات قبل أو أثناء الانتخابات على سبيل المثال، أو خلال الاحتجاجات الجماهيرية والتظاهرات التي يقوم بها المواطنون، في محاولة للتقليل من أثر تلك المنصات على مسار العمليات والأحداث، انطلاقاً من خوف الحكومات التاريخي من الكلمة وقلقهم من استخدام مواطنيهم لعقولهم والبدء بالتفكير، مما يعرض أنظمتهم وسلطتهم للخطر.
تختفي المساواة كأحد المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان من الفضاء الإلكتروني، إذ يستمر التمييز وقمع الحريات التي تمارسها السلطات حيناً والأفراد أحياناً أخرى، حتى في أعرق البلاد التي تدعي الديمقراطية وتنادي بحقوق الإنسان وحقه في المساواة والتعبير عن آرائه، ففي الوقت التي تحجب فيه الحكومات الكثير من المواقع المعارضة والتصريحات التي تنتقد سياستها وقراراتها، نراها تروج من جانب آخر للمنصات التي تحابيها وتتماشى من توجهاتها وتنطق باسمها، مما يشكل انتهاكاً فاضحاً لحق الجميع بالمساواة دون تمييز على أساس حزبي أو سياسي أو ديني أو عرقي.
ويبدو أنّ تلك الممارسات لا تقتصر على ما تقوم به السلطات باعتبارها المتحكم بشبكة الاتصالات في نطاقها الجغرافي، بل يتعداه إلى ممارسات فردية يقوم بها أفراد مستقلون أو تابعون فكرياً وعقائدياً لجهة أو جماعة، حيث تمارس جميع أشكال قمع الحريات والكبت والتضييق، ليصل الأمر إلى التشهير والتنمر الذي يطول كل من يخالفهم الرأي.
في ظل القمع والانتهاكات التي تطول الإنسان وحقوقه على أرض الواقع، يبدو ترفًا الحديث عن حقوق الإنسان في الفضاء الرقمي، الذي لم تتم قوننته إلا بما يخدم مصالح الحكومات ويبعد المسؤولين عن دائرة النقد والمساءلة، إلا أنّ المطالبة بتفعيلها واقعياً وافتراضياً بات أمرًا ملحاً إن كنا نريد للإنسان أن يتمتع بإنسانيته وحياته ويمارسهما كما يجب أن تمارس.