الفلسفة بوصفها «لا جدوى»

آراء 2023/04/13
...

 رعد أطياف

 عادة ما تتجه عموم الناس إلى احتضان الأجوبة السهلة والنافعة، وتغيّب الأسئلة الجوهرية التي تخص مصير الإنسان والكون. إنها تصاب بالرعدة والذهول من الأسئلة الوجودية الكبرى.  ولكي يبدو الأمر مشروعاً ومستساغاً ما عليها سوى التشبث بالـ «الوضوح» و»الشفافية» كآلية هروب متقنة. وبالتالي أسئلة الحقيقة تنتمي إلى صنف مخصوص من البشر نطلق عليهم صفة «الفلاسفة».تصور لو أنك صادفت أحدهم بهذا السؤال «ما الفارق الأنطولوجي بين الكائن والكينونة»؟، «لمن الإصالة، للوجود أم الماهية»؟، «ما الحقيقة»؟ « «هل الحقيقة تصاغ على شكل قضية منطقية أم أنها انكشاف»؟مؤكد أن الجواب سيأتي سريعًا: أنها رطانة وفذلكة لغوية ليست ومن ورائها شيء سوى «لا جدوى».

أيًا ما يكن الامر، تبدو هذه الأسئلة غير ذات جدوى لعموم الناس. وبحسب الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر، فأن للحس المشترك ضرورته الخاصة « فهو يدافع عن حقه مستخدماً سلاحه الوحيد «البداهة». وبالتالي ثمة بون شاسع بين تلك «البداهات» الآمنة وبين لغة الفلسفة عميقة الأغوار.

 لذلك، وبحسب هيدغر، أن الفلسفة لا يمكنها أن تفند الحس المشترك لأنه لا يفهم لغتها،» لأنه يظٌل أعمى عن كل ما تقترح عليه النظر فيه كشيء أساسي».

ومن هنا نفهم ذلك النفور الشديد بين «أنصار البداهة» الذين يطالبون بالوضوح والتبسيط كرد فعل لا واعٍ لرفضهم القاطع لرطانات الفلاسفة. وإلا ستغدو الفلسفة خليطا من «الكلام الفارغ»، و»اللاجدوى».

لكن الفلسفة حين تفكر لا يعنيها ذلك الجموح الخطير لانحرافات الفكر وهو يتوسل التبسيط والإيضاح، ولا يعنيها أيضاً تبادل الآراء وكسب الجمهور. بل هي ليست تواصلاً حتى، بتعبير جيل دولوز، بقدر ما هي الفن القائم على إبداع المفاهيم. ومن يقبل بهذه النتيجة ممن رهن حياته الفكرية للسائد والمعتاد والمألوف؟

من هنا تنبع لا جدوائية الفلسفة: أنها ليست معنية بالزمان الحاضر، لأنها تنطلق لأوان غير أوانها (من فينا ينتظر قرناً كاملاً لقراءة أفكاره؟)، وأنها لا تتوسل بداهات الحس المشترك، وهي في قطيعة تامة مع مواضعاته ومسلماته المريحة، فضلاً عن مواضيعها التي لا تندرج في سياق المنفعة والترفيه عن النفس.

يذكر الباحث اللبناني جمال نعيم قصة أستاذه الفيلسوف موسى وهبة كيف شعر بالإحباط حين حضر حفل زفاف، واكتشف قيمة الأجر المدفوع لفنان الحفل، وهو أجر أكبر بكثير لما تم دفعه لهذا الفيلسوف الكبير لقاء ترجمة كتاب الفيلسوف الألماني عمانؤيل كانط «نقد العقل المحض».

لكن فيلسوفنا، موسى وهبة، واصل مسيرته الإبداعية، ولم يوقفها سوى الموت. لكونه يعرف قدره: أنه فيلسوف يغوص في هذه «اللاجدوى» التي تخلخل البداهات

 والمسلّمات.

أن المحصنين من الحقائق، يجدون أنفسهم بمنأى عن طرح الأسئلة الفلسفية، ولكي يبدو الأمر معقولاً، ما عليهم سوى ضرب الفلسفة في قلبها النابض، وأعني بها لغتها العالية، كما لو أنهم سيقبلون عليها فرحين لو كانت سلسلة واضحة.

بيد أن الفيلسوف حين ينحت لغته بهذه الرفعة والعمق- والغموض أحياناً- ليس بدافع نزق صبياني، أو تعمّد الغموض، وإنما ليحرر اللغة من الرتيب واليومي والاستهلاكي، وتحريرها من عبودية الدلالات المزيفة، فسرعان ما تلتمع المعاني.

لذا ليس ثمة حياء لدى الفيلسوف أن يتلمس في الدروب المظلمة، أو ينزل ضيفاً في رحاب الشعر، مثلاً، ليتلّمس نور الكينونة التي أخفته التصورات المزيفة.

ان صراع الحس المشترك حول الألفة والأمان، وصراع الفلاسفة حول الكينونة، فهل ثمة من تلاقي أو جوار بين الاثنين؟ 

الفيلسوف ذلك المنبوذ من قومه، والمنبوذ من الحاضر، والمنبوذ شكاوى الحس المشترك، لأنه يبحث عن الحقيقة، ولهذه الأخيرة أعداء كُثُر.

فأي جدوى وأي منفعة لذوي الفهم المشترك من هذا الصداع المزعج؟