فارس حامد عبد الكريم
تعد فكرة العدل من أقدم الفضائل الإنسانية التي تعبر عن رغبة أصيلة لدى الإنسان في إحقاق الحق ورد كل ماهو ظالم وغير معقول.
وقياساً إلى الحقوق الطبيعية للبشر فإن جوهر العدالة ثابت غير متغير، باعتبارها نظرية اخلاقية مجردة توفر الحماية للحق في الحياة والحرية والكرامة والمُلكية، إلا أن فكرة العدل وقياساً على الحقوق الوضعية، تعد فكرة نسبية اكتسبت عبر التاريخ كثير من الدلالات المختلفة بإختلاف الزمان والمكان، وترتبط كما يقول القديس توما الاكويني ارتباطاً كاملاً بأسلوب وتفكير الإنسان عبر العصور.
فالعدل في حقيقته ومعناه ليس بخاصية من خصائص القانون وليس هو ظاهرة من ظواهر المجتمع، بل هو فضيلة وسلوك للانسان في علاقاته الاجتماعية ينبغي أن تتحقق ولو لم يكن هناك قانون أو دولة...
ويذهب الإمبراطور الروماني جسستنيان في مدونته إلى القول: (العــدل هو حمل النفس على إيتاء كل ذي حـق حقـه والتــزام ذلـك عـلى وجـه الـدوام والاسـتمرار). ذلك أن الفضيلة تعني استعداداً دائماً ومستمراً للنفس البشرية لفعل الخير ورد الشر، فالفضيلة تحمل طابع الدوام والثبات، اما إذا اتخذ السلوك صفة التقطع فلا يعد فضيلة، لان التقطع يرتبط بالانتهازية والتحيز، وعلى هذا النحو فان الإنسان اما أن يكون عادلا وفاضلاً على طول الخط أو لا يكون. وهكذا ميّز الفلاسفة بين أربع فضائل أساسية ينبغي ان تحكم سلوك الإنسان هي: التبصر، العدل، ضبط السلوك الاجتماعي، والجَلد والشجاعة.
ومن بين هذه الفضائل الأربعة يرتبط التبصر والعـدل بعلم القانون، والتبصر وهو فضيلة عليا تتمثل في القدرة على أعمال العقل والتفكير السليم الموجه للتصرفات والأعمال للوصول إلى الغاية المنشودة، وينبغي أن يقوم العمل التشريعي والقضائي ومعيار السلوك المطلوب من الأفراد على أساس
التبصر.
ويميز الفقه الحديث بين فكرة العدل التوزيعي والتبادلي وفكرة العدالة؛ ويقوم العدل التوزيعي على المساواة النسبية، تبعاً لقدرات وفروق كل فرد ومهامه في المجتمع. اذ يفيد معنى المساواة في المراكز القانونية المتماثلة، وهي مساواة قانونية وليست فعلية، فالمفروض أن يطبق القانون بمساواة جميع الاشخاص في مركز قانوني معين فالمثل يعامل كمثله، وغير المتساويين لا يلقون معاملة متساوية، وهو الذي يبرر لنا عدم المساواة المطلقة بين الأفراد، فحقوق الوظيفة العامة مثلاً مرتبطة بمستوى التأهيل العلمي، والضريبة ترتبط بمقدار الثروة.
وعبّر جستنيان عن ذلك بالقول (مساواة غير المتساويين ظلم).
العدل التبادلي: وهو الذي يسود في علاقة الأفراد فيما بينهم ويقوم على المساواة الحسابية التامة، فإذا قام شخص بإحداث ضرر للغير، التزم بإصلاح الضرر الذي أصاب المضرور اياً كان وضعه الاجتماعي ومؤهلاته، أو تعويضه نقدياً بمايعادل الضرر، ويتحقق ذلك من خلال قواعد قانونية عامة مجردة تطبق على الجميع بنزاهة، ويقتصر دور العدل هنا على بيان أن الإجراءات كانت عادلة لأن أحدا لم يستثنَ أو يستبعد بشكل غير عادل من تطبيق القانون، لا فرق بين أم تسرق لإطعام أطفالها الجياع وبين من يسرق لإرضاء ملذاته. لأن العدل القانوني يعتد بالوضع الغالب الظاهر لا بالوضع الداخلي الخاص بالمخاطبين
بحكمه.
اما العدالـة: فتعني الإنصاف وهو شعور كامن في النفس يوحي به الضمير النقي، ويكشف عنه العقل السليم وتستلهم منها مجموعة من القواعد تعرف باسم قواعد العدالة، بما توحي به من حلول منصفة ومساواة واقعية، تقوم على مراعاة دقائق ظروف الناس وحاجاتهم.
إن التمييز بين فكرتي العــدل والعدالــة هو الذي أوحى إلى الأنظمة القانونية بالحاجة إلى إصلاح صرامة القانون، من خلال الدعوة إلى تفسيره بروح العدالة، بدلا من التركيز على حرفية النصوص، وهذه الحالة نجد تعبيرها في القول المأثور (الرحمة فوق القانون)، الذي يعني أن على القاضي أن يعالج الحالة الفردية بروح العدالة. ويلاحظ ارسطو أن الناس جميعاً يتفقون على أن العدالة في التوزيع يجب أن تجري وفقاً للاستحقاق، إلا انهم يختلفون في فهم المقصود من الاستحقاق.
* النائب الأسبق لرئيس هيئة النزاهة الاتحادية.