د.اسماعيل موسى حميدي
المنهج الخفي أو الصامت أو المستتر، هكذا يسمونه أهل التربية، وهو مصطلح يطلق على عملية تعلم الفرد واكتسابه لقيم وسلوكيات من طريق التشرب بدون قصد أو شعور بما يتعلم، إنما تتسرب له الثقافات بخفاء وتستتر في نفسه ثم تبان على سلوكه النمطي في ما بعد. ويأتي هذا النوع من التعلم نتيجة المخالطة داخل اطار المجموعة التي ينتمي اليها الفرد، وهذه المجموعة قابلة للتوسع والانكماش، فربما تقتصر على مستوى الأسرة أو مجموعة اصدقاء، أو تتسع لتكون العالم بأسره.
على سبيل المثال ينشأ الجيل في المدارس بطريقة لم يخطط لها الاباء ويكتسب الطلبة صفات غير صفاتهم، من خلال ما يزج لهم بالخفاء يستميل نفوسهم ويستقر بداخلها، وبصورة مخالفة لأهداف المنهج الرسمي الذي تلقوه داخل المؤسسة التربوية، وهكذا تتم عملية تغيير السلوك سلبيا نتيجة الاختلاط وبطريقة لا شعورية، وقد ثبتت الدراسات أن الطلبة يكتسبون من المنهج الخفي ما مقداره 70 %، من العادات والقيم والثقافات غير المخطط لها.
مثلا، يتلقى احد الطلبة ضمن المنهج الرسمي ثقافة أن التدخين مضر بالصحة، ولكن هذا الطالب يرى معلما في المدرسة يعده أنموذجا وهو يجاهر بالتدخين، فيتسرب إلى ذاته سلوك التدخين من طريق الاعجاب بهذا المعلم، رغم مخالفته القيمية من طريق تقليد القدوة لا
شعوريا.
وعلية لا بد من الوقوف عند حيثيات هكذا نوع من المناهج، ليس ضمن إطار التربية فحسب انما تناوله من منظور اجتماعي وسياق حياتي، لأن علماء النفس يتفقون على أن المنهج الخفي هو اخطر انواع المناهج اجتماعيا، لأنه الاكثر رسوخا في النفس، ويتوغل بداخلها من طريق المرونة والقناعات الطوعية للفرد بالأشياء التي تتلقفه دون شعور، ولذا يصنف بأنه الأخطر على الإنسان من حيث تغيير مسار السلوك وحب الاشياء والايمان بالقيم، وبالنهاية الفكر الذي يترسخ في النفس بهذه الصورة، لا يمكن زواله أو تغييره الا بمنهج خفي آخر
مضاد له.
ولو راجعنا سلوكياتنا لوجدنا أننا جميعا قد تملكنا هذا النوع من المنهج دون شعور في محطات كثيرة من حياتنا، تمخض عن نظرتنا للحياة بعين قيمنا الاجتماعية أو الدينية أوالعشائرية والتأثر بالمواقف، التي نالت استحسان الذات، وبات الفرد منا يؤمن إيمانا مطلقا بقيمه تلك، وإن كانت قيما مغلوطة أو منحرفة عن المسار الانساني الصحيح، ومن هنا ولد الفكر المتعصب والمنحرف أو حتى الشاذ.
وهكذا تولدت ثقافات الشعوب وتشعبت مسالكها.
وعليه يزداد القلق في المجتمعات المحافظة من هذا الطارئ غير المحسوس، الذي يتجسد فكر النشء ويتملكهم ولا تظهر آثاره الا بعد سنوات على شكل مظاهر ثقافية، ربما تتمثل بفكر منحرف لا يمكن معالجته.
وهنا يتصارع المنهجان الخفي الرغائبي والتربوي الأسري والبقاء للاقوى.
المنهج الخفي منهج طويل الامد، ولذا بات جزءا حيويا من سياسة مخابراتية عالمية (وهنا هو الاخطر)، من حيث المعالجات الثقافية التي توضع للشعوب المتضادة مع سياسات الدول، من طريق دراسة تلك الشعوب ومحاولة التأثير في أفكارها وتغيير ثقافاتها.
فيتسلل المنهج الخفي من خلال إعلان تلفزيوني أو علامة توضع في بنطال، أو فيلم كارتون، أو فكرة داخل رواية، أو تسريحة شعر لأحد المشاهير، أو مقطع مؤثر في مسلسل لنجم هوليوودي، وهكذا.
واخطر سبل المناهج الخفية هي تلك التي تقف وراءها ايد خفية كالماسونية أو الحركات السرية والمنظمات العالمية، التي تلجأ إلى الاسلوب العلمي في ترويج منهجها، مثلا التحكم في تسريحة الشعر عالميا عن طريق نجم هوليوودي أو لاعب كرة قدم مشهور لتكتسب العالمية، وهنا عمل المنهج الخفي عن طريق النمذجة وهو اسلوب تعليمي شائع في علم النفس، وبالنتيجة فإن التقليد لايقتصر على تسريحة هذا الرمز فقط انما يتعدى ذلك لتقليد سلوكياته الأخرى.
أو تمرير ثقافة معينة وتجسيدها عن طريق أفلام كارتون تعرض للصغار، وهنا استخدم اسلوب الحاجة إلى التعلم.
او التسلية بلعبة تتطلب كثيرا من الاشخاص مثل البوبجي، وهنا استخدم اسلوب التعلم التعاوني.
او متابعة مسلسل بحلقات متباعدة فيها أحداث تعمل على المحفزات عن المشاهد وترتبط باستجابة سريعة للمتلقي وهنا استعمل اسلوب التعلم
بالاقتران.
وهكذا تولد المجتمعات وتولد معها ثقافات معقدة تحركها ايدي خفية بأيديولوجيات بعيدة المدى.
والشعوب الذكية هي التي تسخّر هكذا نوع من المناهج ضمن نطاقها القيمي داخل ساحتها الاجتماعية وهذا يتطلب ذكاء مؤسسيا تقوده اجندات متماسكة بقوة عقلية ذات منظور بعيد المدى.