حداثة بشّار بن برد في منظور نقديّ معاصر

ثقافة 2023/04/18
...

 د. فاضل عبود التميمي

  صدر عن دار كلمة للنشر والتوزيع في تونس 2022 كتاب الناقد التونسي الدكتور مبروك المناعي الموسوم بـ (حداثة القديم: بحث في شعرية بشار بن برد)، والكتاب بمدخله وفصوله الستة وخاتمته الاستبصارية رحلة ممتعة في عالم الشاعر العباسيّ المهم بشار بن برد (168هـ) ودفاع بقناعات ثابتة عن أبرز المسائل التي عَلِقت بحياة الشاعر وشعره، وقد تبناها الناقد وهو يحتكم إلى نصوص الشاعر، وقسم من الأخبار التي تناولت بشار وشعره، فكانت تأويلاته قد رجّحت الآراء استنادا إلى آليات التحليل التي تبحث في البنى العميقة للنصوص.

وكان الهدف من تأليف الكتاب -بحسب رأي الناقد- عرضَ  القراءة الخاصة بشعر الشاعر، والتنبيه إلى ما فيه من أحداث الفن، ومقومات الأسلوب والدلالة، وتقديمها مضبوطة في رؤية لا تجانب الصواب إيمانا من الناقد أن شعر بشار لم يقرأ قراءة دقيقة في ضوء ما فيه من رؤى وتحولات.

وكان الناقد استعمل (الشعريّة) في الكتاب بمعنى المبادئ الجماليّة، والخواص التعبيريّة التي توجّه المبدع، وترفع من شاعريّة الشاعر، وهو استعمال أحال على مسألتين: الأولى لها صلة بالخصيصة البنائيّة التي تتعلّق بلغة الخطاب الذي انفتح على سياقات اتّسمت بحلول روح الشعر فيها، أي أنّ الشعريّة في الشعر توظيف لعلامات لغويّة، وبنائيّة غرضها صوغ متن مميّز، والأخرى لها صلة بالخواص التعبيريّة ممثّلة بالخصائص اللفظيّة والأسلوبيّة، ورأى الناقد من باب البديهيّات سمو شاعريّة بشّار؛ فهو شاعر مهمّ بقسم كبير من شعره الذي نجا من الضياع، وكان له مشروعه الشعري، وتمرد شخصيّته ممثّلا بصدامه، وتحرّشه بالمخاطر، وعدم الركون إلى الثبات، ووضوح ذاته في قصائده من خلال كثافة تلك الذات في  شعره، وهو عند الناقد شاعرٌ كليٌّ كتب القصيد والرجز بمعنى أحاط بالشعر من جانبيه المعروفين يومذاك، فضلا عن أنّه قال الشعر الفخم جوار الشعر اليوميّ الذي رأى من خلاله عصره وواقعه.

في الفصل الأول من الكتاب وقف الناقد عند (أغراضيّة بشّار ومعانيه الشعريّة) رائيا أنّ بشّارا برز في الغزل والفخر والمدح والهجاء والحكمة، وتوسّع في الغزل حين عَبَرَ من خلال غزل الحرائر إلى غزل الجواري ففتح بابا جديدا للتعبير عن جزء مهم من وجود المرأة التي تعرّضت للسفه والنسيان، ولا سيّما الجواري ذوات البشرة السمراء، وبهذا نقل الغزل إلى فضاء أوسع، ومشاركة أكبر، وجعل الحبّ على لسان الحيوان أيضا، وهو فضلا عمّا ذكر أول شاعر عربي أربك الخيال، وأحدث بين الحواس تراسلا كما رأى الناقد، ولي على رأيه الأخير اعتراض مؤدّاه أن تراسل الحواس وُجد قبل بشار، ولا سيّما في الشعر الجاهلي عند الأعشى الكبير وغيره.

وفي المدح برز بشّار أيضا، فضلا عن بروزه في الهجاء، فقد دخله بحسب رأي الناقد اضطرارا، وهو وسيلة لجلب المنفعة، وقد بالغ فيه حتى برّز من خلاله النزعة الساخرة، والتهكّم على المهجوين، وكان الشاعر مقلّا في الرثاء فخصّ أقاربه به، ولكنّه في شعر الحكمة كان متأمّلا ومتفوّقا من دون أن يحشره بالأمثال والحكم، فقد ترك لتخيّله أن يملأ فراغ الأمثال والحكم السائرة، وحسنا فعل وهو يوجز، ويكثّف في معانيه، وهذه خصيصة حُسبت للشاعر.   في الفصل الثاني (خصائص البناء الشعري) ناقش الناقد كيان النصّ الشعريّ كاملا، أو ناقصا من خلال ثنائيّة القصيدة الطويلة: المقطوعة أي القالب في شكل القصيدة بوصف تلك الثنائية بنائيّة كبرى في شعر بشّار؛ أي أنّ الفصل تجاوز ثنائيّة الرجز: القصيد إلى شكل نوعيّ أحال على قدرة الشاعر في تحقيق الكمال التعبيري في الأغراض كلّها؛ بمعنى صناعة الشعر بمقتضياته النظميّة التي تحيل على فكرة القديم والجديد، وهو يولّد المعاني ويضيف، ويجدّد حتى استبدل الناقة بالجمل في رحلة المدح، مطوّرا في شكل الرحلة، ومضمونها، مقترحا الرحلة المائيّة بديلا عن الرحلة البريّة عاكفا على وحدة القصيدة، والحرص على انسجامها وتلاحم أجزائها، وذهب الناقد إلى مظهر آخر من مظاهر التجديد في شعر بشار هو تصرّفه في المعارضة الشعريّة، وابداعه فيها، ولا سيّما في خاصيّة التناوب على القول بين الشاعر المعارِض والشاعر المعارَض، وقد سمّى ذلك التصرّف بالتقاول أي التشارك في القول.

ووقف الناقد وهو يبحث في البناء الشعري في ديوان بشّار عند ظاهرة (التناص)، وهو مصطلح حديث أمكن اجراء آلياته على الشعر القديم من خلال الكشف عن تعالق خارجيّ أحال على تداخل شعر بشّار مع شعراء غيره، وآخر داخليّ جرى بين نصوص الشاعر نفسه، آخذا المصطلحين من النقد الفرنسي وتطبيقاته التي ظهرت في جامعة (منوبة) التونسيّة التي اشرف فيها الناقد على رسالة علميّة عن التناص في شعر أبي نواس، وقد أجاد في إدارة هذا المصطلح والكشف عن جماليّاته بسبب ثقافته التراثيّة والمعاصرة معا من خلال وقفات رائدة كشفت عن تناص بشار الخارجي مع أشعار الشنفرى، وكُثير عزّة، وعمر بن أبي ربيعة  في المعنى والشكل القصصي، فضلا عن تناصه مع شعر جرير، على أنّا يجب أن لا ننسى أثر بشار في شعر سُلّم الخاسر، وأبي العتاهية، ومسلم بن الوليد، والمتنبي، وأبي العلاء المعري، فقد قدّر للناقد أن يتفحص شعر الشاعر وأن يفكّك مقولاته وتأملاته السابحة في بنائه الشعري الفخم وفي شعر أولئك الشعراء.  وكان للناقد أن وقف في الفصل الثالث عند (مقوّمات المعجم والتركيب) في شعر الشاعر من خلال خمس ملاحظات حاكمة أولها تعلّقت في غريب بشّار الذي ارتبط بالرجز أكثر من القصيد بوصف الأول نتاج البداوة والأقدم ابداعا، وهو ما كشف عن معرفة الشاعر باللغة وتضلّعه بالغريب، ولا سيّما في وصف البيد، والمهامه؛ أي المفازة في الرحلة، ووصف المطايا، والملاحظة الثانية معطى تعبيريّ في قصائده مثّل توسّعا في لغته الشعريّة اشتقاقا وأثراء، فضلا عن قوّة شاعريته، واتساع رؤياه، ومعاناته الإنسانيّة التي وضعته على محك التجاوز.

وتمثّلت الملاحظة الثالثة في حمل اللغة على أن تقول ما لم تتعوّد قوله توسعا في قدراتها التعبيريّة بسبب من قوّة شاعريته ومعاناته الإنسانيّة، وجرأة طبعه، وفيضان ذاته، وضيقه بالحدود والقواعد، وتمثّلت الملاحظة الرابعة في استعماله ألفاظا بمعاني محسوسة قبل أن تجرّد، وللشاعر في الملاحظة الأخيرة العمل على إزالة العلميّة عن الاسم؛ أي تعطيل دلالته الاعتباطيّة بوصفه دالّا جديدا.   إنَّ حضور اللغة بشكلها المنفتح على الجديد في شعر بشار بن برد أعطى فكرة عن معجم مائز شكّل الذخيرة الذهنيّة التي أحالت على خصوصيّة الثقافة العربيّة التي تراكمت من خلال مئات السنين في ذاكرة الشاعر، وقد دفعت لسانه لأن ينتج مفردات وصورا ذات وظيفة خاصّة بالمكان والزمان في قصائد طويلة ومقطّعات، وليس هذا بالغريب على شاعر خبر البادية، وعرف المدينة، واحتفى بنفسه قبل أن يحتفي به الآخرون.

في الفصل الرابع (مقومات التنغيم والتوقيع) اعتنى الناقد بمختلف المظاهر المجسّمة للصوت في الشعر، أي المردود الجمالي لتوظيف الأصوات والأجراس والايقاعات فيه، فضلا عن عنايته بمقوّمات التنغيم التي أساسها البحر بوصفها مماثلة توزيعيّة توقيعيّة لها صلة بالكم الصوتي، فضلا عن القافية بعدّها مماثلة توزيعيّة تنغيميّة لها علاقة بالكمّ والكيف الصوتيين معا، وهذا ما وجده الناقد ينطبق على الشعر العربي القديم بقصيده ورجزه. 

 على أن الناقد وجد أنّ القصيد اختصّ بتكثيف صوتيّ إضافيّ شبه اختياري من خلال التصريع الذي له وظيفتان؛ تسميط النغميّة المميّزة للقصيدة، وإقناع الشاعر المتلقي بقدرته على احكام تنغيم الشعر الذي فتح إمكانات تنغيم الخطاب الشعري من خلال النبر التكثيفي الذي هيّأ جناسات تشبه في عملها عمل القافية، وهي تتّسع لتراكيب، وأصوات لها صلة بالإيقاع، هذا ما قاله الناقد وهو يتملّى بديوان بشّار، أما على مستوى الإجراء فقد كشف عن وظيفة الإيقاع في دعم الوزن من خلال قصيدتين للشاعر وجد فيهما تضافرا، وتكاملا بين التركيب والايقاع والتنغيم، فضلا عن وقوفه عند الظاهرة الجناسيّة التي سمّاها بالنبر التكثيفي الذي أتى في شعر الشاعر عفوا، ورأى الناقد أنّ الثراء الصوتي في شعر بشّار ليس مستغربا من شاعر رأى العالم بأذنيه، واستوعب جماله بهما، وعشق النساء من خلال الصوت، وعندي أن العبارة الأخيرة حكم نقديّ بلغة شعريّة مائزة.

 في الفصل الخامس (خصائص التمثيل ونظام الصورة) سعى الناقد إلى العناية بالتمثيل الذي خرج إلى إقامة الشعر صور الأشياء والذوات حتى كأنّها تُرى لا بوصفها حقيقة الشيء في الواقع إنما ملامحه في الشعر، والصورة في رأي الناقد أهمّ مقوّمات الشعر الذي هو في الأساس تفكير بالصورة عن طريق المجازات، وهذا ما وجده في شعر بشّار الذي كانت الصورة مجالا رحبا في شعريته من خلال الصورة المتحيّزة؛ أي المفردة المقتصدة بلفظها والقادرة على الإيحاء، ولا سيّما في النسيب والغزل من خلال الأوصاف الحسيّة والتشبيهات الجديدة، وتوليد مبتكر للصور التي مصدرها ثقافة الشاعر التي حوّر من خلالها، وولّد الصور، وصولا إلى إيجاد الصور الطريفة المفاجئة، فضلا عن الألغاز التي أبعد فيها الشاعر استعاراته المبنية على المفارقة الحادّة.

أما الصورة الممتدّة فقد رأى فيها الناقد تشكيلا بُني من خلال المشهد الشعري الواصف كما في وصف سفن الخليفة المهدي، وفي السرد حين لوّن شكل القصيدة، وفي الحديث عن قرائن الناقة، فضلا عن صوره التي ابتكرها سردا خرافيّا وأسطوريّا، وفي الغزل أيضا، وللناقد في هذا الفصل وقفة مهمّة وهو يدقق في أصول التشكيل الاستعاري في شعر بشار، فقد وجده في الماء، والعين، والبُرد وما يتصل به من مادة الوشي.

أمّا الفصل الأخير (النقض والخرق) فقد كان رحلة في شعر بشّار وهو يتطاول على السلطة، ويتحرش بالممنوع بسبب من حدّة طبعه، ومزاجه، واعتداده بشاعريته، وتناقض وضعه الاجتماعي؛ ولهذا خرج على ثوابت المجتمع بوساطة الشعر الذي عُدّ انحرافا وشذوذا في النقد الحديث، فقد أبدع الشاعر فيه بوساطة الخرق والنقض، والاختراع والعدول الأسلوبي، وهذا لا يكون إلا في لغة الشعراء المتجاوزين. 

وبعد: فإنّ الآراء التي سجّلها الناقد وهو يحيل شعر بشّار على حداثة سمّاها حداثة القديم التي تشمّ منها رائحة المغايرة ليس بمفهومها الغربي المبني على القطيعة مع الماضي، إنّما بمعنى الكشف عن مقوّمات تجاوز المألوف في قسم كبير من قصائد الشاعر، فضلا عن البناء على رؤى شعريّة مائزة تحيل على التحوّل الذي أصاب العقل (الشعري) العربي القديم، وهو يتجاوز الأطر السائدة في سعي اعتمد الجدّة في التعبير، وتمكين الرؤى من تحقيق قدر واضح من الفنيّة في شكل العمود الشعري ومضمونه.   بقي عليَّ أن أنوّه إلى أنّ قراءتي للكتاب في طبيعتها الاستكشافيّة أرادت الوقوف عند الشعر القديم بهدف الإحالة على ما فيه من قضايا جديدة أدامت الصلة مع التراث، ودعمت فكرة المعاصرة كان الدكتور مبروك المناعي بعقله النقديّ قد أسهم في التأكيد عليها حين أحاط بالقديم والجديد معا في منهجيّة تحليليّة احتفت بالشعر، والشاعر، والنقد معا.