السودان والحرب السائلة

قضايا عربية ودولية 2023/04/19
...

علي حسن الفواز


حينما كتب زيجمونت باومان كتابه عن "الحداثة السائلة" و"الحب السائل" وغيرها من "التفاصيل السائلة"، نسي أن هناك "حرباً سائلة" يمكن أن تذوب فيها الكيانات الصلبة، والأفكار الصلبة و"الجنرالات" غليظو الوجوه.ما يحدث اليوم في السودان هو نوع من تلك الحرب، حيث يتهدد الجميع بالذوبان والمحو، وعلى نحو يثير معه استنساخ تجربتي الصومال وليبيا، حيث ذابت الدولة بالكامل، وصعدت الجماعات الصغيرة، مقابل صناعة "السياسة المتفجّرة" والخضوع إلى إجراءات التغذية الإقليمية والدولية، وهي إجراءات لا تطرح حلولاً ناجعة، بل ستكتفي بإعادة توزيع الحصص السياسية والعسكرية بين المتحاربين. نهاية المسار التوافقي بين مؤسسة "الجيش" و مؤسسة" الدعم السريع" تكشف عن نهايات مجاورة، حيث إخراج القوى المدنية عن المعادلة، وحيث العودة إلى المناطقية والعرقية، وحيث سيعود جماعة "الجنجويد" الذين تحولوا إلى قوات "الدعم السريع" إلى ثكناتهم الإيديولوجية القديمة، بمواجهة "الجيش" الذي تغيّرت ملامحه بعد الانقلابات العسكرية الكثيرة.البعض يتهم الرئيس السوداني السابق "عمر حسن البشير" بأنه من صنع الجماعات العسكرية خارج النظام، والبعض من يقول: إن لملمة تلك الجماعات هو الحل العقلاني بخلق بيئة سياسية تقبل بالتحول الديمقراطي، لكن الواقع يكشف في غموضه عن صراع عميق بين المصالح، والأدوار والغنائم، وهي تسميات لها أقنعة سياسية وعسكرية، من الصعب تأطيرها وإخضاعها لـ"القانون"، فجماعة "الرد السريع" يشكّون بأن دعوة الجنرال البرهان لضمهم إلى القوات الرسمية، هي فخٌ لتذويبهم، ولتجريدهم من خصوصية "الجماعة المسلحة" ذات الحضور شبه المستقل، بالمقابل يجد "الجيش" أن هذا البقاء سيُبقي الأمور "سائلة"، وأن الروابط بينهما ستظل سائبة، وقابلة للتفجّر، مادامت مخازن الأسلحة خارج السيطرة. لعبة المصالح، تعني صياغة تواطؤات تقوم على التقاسم، والتي ستقود حتماً إلى التناقض والتقاطع، لاسيما في مدن أُتخمت برساميل خاصة، وأن لا مركزيتها جعلتها أشبه بـ"الأرض المفخخة" وبالعلاقات المُهدَدة على الدوام، وبفرضيات "الثقافة الانتزاعية" البعيدة عن مراعاة المصالح العامة، والأهداف التي تمّ الاتفاق عليها بعد اسقاط نظام البشير.الحرب السائلة في السودان ستجرّ معها الحياة المدنية، والأحلام الديمقراطية، وستحوّل الشارع إلى معسكر مفتوح، لا يصلح للتظاهر، ولا للاحتجاج، ولا للتعبير عن الحقوق الصلبة التي ستتعرّض هي الأخرى للذوبان.