عبد الأمير المجر
يعتقد كثيرون أن الجيوش عبر العصور، وجدت للدفاع عن الدول وللغزو ايضا! وهذا الاعتقاد ليس خطأ لكنه لايمثل الحقيقة كاملة، فالجيوش لم تتشكل بتركيبتها الحالية وتراتبيتها المعروفة اليوم إلا بعد أن مرّت بمخاضات طويلة، إذ تصيّرت جنينيا في عمق التاريخ، لتعكس قوة الجماعات أو الجهات المتناثرة وقتذاك والمتصارعة على الثروات، ومن رحم هذا الصراع الطويل انبثقت فكرة الدولة وظل الجيش إلى اليوم عمادها الأساس، فالجيش لم يعد حاميا لحدود الدولة فقط، وانما المتصدي للطامحين المحليين ممن يسعون للامساك بالسلطة بطرق غير مشروعه، وكذلك اصحاب النزعات الجهوية التي تهدد وحدتها.. وعليه فإن فلسفة الجيوش وضروراتها كصمام أمان لبقاء الدول، تتقدم على فكرة الغزو والدفاع عن الحدود، لأن هذا يأتي كتحصيل حاصل لاحقا.. ما حصل في السودان مؤخرا نتيجة لتعدد الرؤوس العسكرية، يمثل درسا في اعادة قراءة فلسفة الجيوش من قبلنا، نحن الدول العربية، وتحديدا التي استهدفت في السنين الاخيرة من قبل قوى دولية واقليمية لها أهداف معروفة، والاستهداف جاء مزدوجا، مرة من خلال تدمير جيوشنا بشكل مباشر أو إشغالها بفتن داخلية انهكتها وانهكت الدول والشعوب معها، ومرة اخرى من خلال الاشتغال على صناعة بديل مشوّه للجيوش يتمثل بالميليشيات، التي ظهرت تحت عناوين متعددة وبأغطية عقائدية لترسيخ وجودها، وكان هذا الاشتغال الذي وقفت وراءه قوى مخابراتية مؤثرة، وسفحت لأجله الاموال الطائلة، يهدف إلى تمزيق بلداننا وجعلها مفككة وعاجزة لتدمير نهضتها، ولتوجيه بوصلتها سياسيا واقتصاديا باتجاه الدول التي وقفت وراء ذلك، وهو ما حصل فعلا.. حتى باتت الميليشيات العقائدية بحضورها المكثف في الميدان الملتهب (المصطنع)، يوحي بانها الأكثر دفاعا عن الناس والمعبّرة عن ضمائرها، لاسيما بعد اعطاء نشاطها صبغة (رسالية)! وقد تجلى هذا اثناء ما عرف بـ(الربيع العربي) حيث أمطرنا الإعلام بمسميات عديدة لميليشيات، أعدت لهذا الغرض وجهّزت بأحدث الأسلحة والمعدات ودفعت لساحة الصراع تحت عناوينها (العقائدية) المتناشزة، لكي تكرس حالة الانقسام المجتمعي وتلغي فكرة الدولة لصالح الجماعات الجهوية، التي علا صوت الطامحين بالسطلة فيها من خلال هذه الميليشيات وغياب الجيوش الرادعة أو ضعفها، الذي حصل بعملية ممنهجة انتهت بنا لهذا الواقع المرير.. درس السودان يعكس ما وصلته هذه اللعبة فميليشيا (الجنجاويد) التي كان يقودها (حميدتي)، لم تتأت لها القوة العسكرية التي جعلتها تتحدى الدولة من خلال هبات المنظمات الخيرية وانما كانت تأتيها من جهات تعرف، ماذا تريد منها أو كيف تجعل منها اداة ضغط ليس على المؤسسة السياسية والعسكرية في السودان، بل على الشعب السوداني كله.. بمعنى أن زج هذا الجسم القوي داخل الدولة، ومن ثم فرض نفسه على المؤسسة العسكرية التي باتت برأسين، سيجعل من احتمالية التصادم قائمة في اي لحظة أو عند اي اختلاف في وجهات النظر بين القيادتين، العسكرية الوطنية والميليشياوية التي باتت منافسة لها من داخلها..
هذا الدرس الذي شهدنا مثله في ليبيا، يجعلنا نؤكد على ضرورة ان يكون للدولة جيش وطني ومؤسسة عسكرية واحدة، وان ننتهي من حكاية السلاح المنفلت وغيرها، لان هذا يمثل اقرب طريق للضياع والإحتراب الداخلي.. وهو ما حذر ويحذر منه العقلاء باستمرار.