علي البيدر
شكلت الهوية الوطنية الجامعة في العراق منذ تأسيس الدولة ازمة حقيقة امام مساعي بناء المؤسسات الحكومية، وتقوية أدائها وتوحيد خطابها، وفق مفهوم إصلاحي حضاري قويم، حيث لعبت التحولات التي شهدتها البلاد دورًا كبيرًا في رسم مفاهيم جديدة للهوية الجامعة، التي تبلورت وفق أيديولوجية السلطة وأمزجتها، التي جعلت العراقيين يختبئون خلف عناوين فئوية قائمة على الاثنية والقومية والمناطقية والعشائرية على حساب حبهم للهوية الوطنية، التي انصهرت في بوتقة تلك العناوين الضيقة، لتصبح سمة للمجتمعات العراقية الفاقدة لأواصر التلاحم والتكاتف من أجل عراق أقوى.
إن التغيرات التي شهدتها البلاد على مستوى تغيير الأنظمة الحاكمة كانت المحطة الأبرز لفهم الهوية الوطنية، التي ارتبطت في نهاية المطاف بما تريده السلطة وما لا تريده صار يمثل الشذوذ عن تلك القاعدة، حتى لو كان إيمان الافراد والمجتمعات مبنيا على تصورات مدنية حضارية تراها السلطة حالة من التمرد على رغبتها في “ترويض” المجتمع وجعله يتماهى وفق الصورة، التي رسمتها لتقوية جذورها وزيادة نفوذها، وبالتالي يمكن أن يطيل ذلك من فترة بقائها جاثمة على صدور الشعب لأكبر مدة ممكنة.
وبرغم تحولات الحكم في البلاد كانت تقود تلك المراحل بعقلية دكتاتورية لا تؤمن بالتعددية، التي تمثل سمة بارزة للعراقيين لا يمكن تجاوزها، فأنها نجحت بإختزال مفهوم الهوية الوطنية الذي ارتبط في المراحل الاخيرة من عمر النظام السابق بالقائد الاوحد الذي صار يمنح العراقيين أوسمة ونياشين تميزهم عن بعضهم بقدر ولائهم لكرسيه، الامر الذي مثل انعطافة حادة في واقع الهوية الوطنية وصورتها داخل عقلية الفرد العراقي، الذي فقد السيطرة على مستشعراته الذهنية لحظة سقوط التمثال في 9 - 4 - 2003، وهذا ما يمثل قفزة نوعية بين مساحتين الأولى صارمة والأخرى فوضوية، شكلت مفاهيم جديدة للهوية الوطنية انتجتها التيارات السياسية القادمة من خارج اسوار المجتمع، والتي لا تعرف الكثير عن نفسية العراقيين وأمزجتهم المضطربة، بفضل عمليات الخنق الشرسة التي مارسها النظام السابق حينها، لتنتج لدينا صورة مشوهة للهوية الوطنية قائمة على مفاهيم متعددة لا تصلح لمواجهة تحديات هذه الأزمة، كونها ستنهار امام ابسط المواجهات الهادفة لاحداث اضطرابات مادية ومعنوية داخل الساحة العراقية لأهداف مختلفة.
مثلت الهوية الوطنية للعراقيين خلال العقد الاخير اشكالية في فهم ماهية هذه الهوية؟
فالبعض صار يروج لمرحلة ما قبل 2003 ومآسيها بوصفها “الزمن الجميل”، الذي انتهت عنده الهوية الوطنية كونه كان مستفيدا من تلك الحقبة أو قانطا من حالة الفوضى، التي عاشتها البلاد نتيجة التغيير القسري، بينما راح آخرون يفتشون عن هويتهم الوطنية بين أحضان فوضى الديمقراطية، التي انتجتها رؤية الاحزاب والتيارات السياسية الباحثة عن توسيع نفوذ هويتها داخل المجتمع، لتتبلور فكرة مقارنة قائمة على التمييز بين الهوية الوطنية في المرحلتين، مرحلة ما قبل 2003 وما بعدها، حيث مثلت المرحلة الاخيرة حالة من الشتات لدى المتلقي العراقي الغارق بموجات الخطاب الباحث عن اقناعه بمصداقية الرؤية الموجهة، والتي تحاول تشكيل مزاجه السياسي وفق اراء آحادية لا تقبل بالاخر.
حتى ضمن الرؤية الدميقراطية للهوية الوطنية، لم يستطع المتلقي تفسير مكامن وجودها، فهل هي متمثلة باحزاب السلطة ام في قوى المعارضة أو التيار الثالث الذي تمثله القوى الاحتجاجية؟ إن الهوية الوطنية الحقيقة يجب أن تكون راسخة في مفهوم الدولة ومؤسساتها، التي تديرها الحكومة الساعية لردم الهوة بين المنظومة السياسية والشعب عبر تنفيذ منهاجها الوزاري ودعم برامج الإصلاح وتنشيط عمل دوائر الدولة لا سيما على الصعيد الخدمي.
حيث تحاول حكومة السوداني إعادة الثقة بالمشهد الحكومي، الذي شهد تعثرات حادة وتسخيره لصالح بناء الدولة وفق مفهوم المواطنة التي لا تفرق بين عراقي وآخر إلا بمقدر تفانيه وإخلاصه للوطن.
اذا ما نجحت الحكومة اليوم في إعادة صياغة خطاب الدولة المتعلقة بالهوية الوطنية، وفق الصورة الحقيقة للتجربة الديمقراطية، فإن الكثير من الأزمات الداخلية سوف تتم معالجتها، وهذا ما يتطلب تنازل الاطراف السياسية عن بعض المكتسبات وتغليب مصلحة الوطن والمواطن على مصالحها الفئوية، وهو ما يعمل عليه السوداني عبر إجبار أحزاب السلطة التخلي عن بعض الامتيازات، الامر الذي سيجعل جميع العراقيين داعمين لحكومته وبرنامجها الإصلاحي، بعيدًا عن اي اعتبارات اخرى.
ليكون بذلك قد تجاوز عقدة عميقة فشلت جميع الحكومات في تجاوزها، وحقق حالة من المصالحة مع العراقيين الناقمين على أحوالهم، التي انتجتها طريقة اداء المشهد السياسي المضطرب خلال المراحل السابقة.