محمد غازي الاخرس
ويقول المصريون في مثل رائع: اللي اختشوا ماتوا، ويحتمل المثل معنيين، الأول أن الحياء نادر، والثاني أن على المرء فعل ما يرغب بفعله دون حساب لرأي الآخرين. فإن أردت ارتداء هذا النوع من الملابس أو ذاك، فافعل ولا تضع حساباً لأحد بذريعة الحياء، وبالتالي، من استحى من غيره مات بحسرته. بالنسبة لي، أرجح المعنى الأول، بقرينة القصة التي أنتجت المثل: اللي اختشوا ماتوا. تقول القصة إنه حدث في مصر ذات يوم أن حريقاً شبّ في حمام نساء، فتعالت الجلبة وتصايحت النساء داخل الحمام، ثم شرعت الكثيرات بالهرب وهن عاريات. بمقابل هذا، استحت نسوة أخريات من الخروج عاريات، فقررن البقاء في الحمام رغم الحريق. والنتيجة أنهن صرن حطباً للنار. ما جرى بعد ذلك أن أحد المارة توقف ليسأل المتجمهرين ممن شاهدوا الحادث، فقال لأحدهم - كم مات في الحريق؟ فرد: اللي اختشوا ماتوا. هكذا وصلت العبارة، بدون أن نعرف دلالة نبرة الصوت، من الممكن أنها كانت حيادية ولا تشير إلا لمجرد الإخبار، ومن الممكن أيضاً أنها تحتمل تفخيم الفعل وتعظيم مفهوم الحشمة لدرجة أن يكون قريناً للموت. من ذاكرتي، حدث في السبعينيات أن نشب حريق في حمام نسوان كان قريباً من بيت جدي في بيوت الأمة بالشيخ عمر. كان قرب مدرسة العاقولي، ولم أكن حاضراً وقتها، وحتى لو كنت حاضراً، فأنا كنت أصغر من أن أتذكر، لكنني سمعت لاحقاً أن النسوة هربن عاريات من النار، وكانت هناك أخريات يقفن في باب الحمام وهن يحملن العباءات والبطانيات والأرز ليسترنهن بها، ولا أعلم عدا ذلك إن كان بعضهن قد اخترن الموت حشمة. في ما يخص فعل (اختشي)، المستخدم في اللهجة المصرية، فإنه عربي صميم مصدره الخشية، ولفظ (الخشية) مرادف للخوف، ويبدو أن إضافة حرف التاء بعد فاء الفعل غير دلالته، من الخوف إلى الحياء، علماً أن بين المعنيين فرقاً واضحاً عند مستخدمي كل واحد منهما، وقرينة ذلك أنهم: لا يخاف ولا يستحي، وتقال الكناية لمن لا يهمه شيء، ولا يردعه رادع.
ومن أطرف التعابير التي بت أسمعها مؤخراً ولا أظنه تعبيراً قديماً، قولهم : استحيت لك، أو استحيت له، أي أنني شاهدت فلاناً في موضع يستحى منه حتى أنني استحيت له، ويقال التعبير للدلالة على عظمة ما يستحى منه. وفي آداب الطعام، ثمة ما يسمونه "لقمة المستحية"، ويقصدون بها آخر لقمة تتبقى في الصحن، وهذه اللقمة تبقى دون أن تمتد لها يد لأن الجميع يستحون من أخذها. أما آخر ما يتبادر لذهني في هذا المجال فهي حادثة ينقلها الراحل عبد الرزاق الحسني عن جميل المدفعي، ففي ذات يوم اشتكى مستشار وزارة الداخلية البريطاني للملك غازي عن وجود عمليات فساد في الوزارة، ونصحه بمحادثة رئيس الوزراء لمعالجة الأمر. بعد أيام جمع الملك برئيس الوزراء المدفعي جلسة شرب شاي في القصر فقال له إن هناك أقاويل عن وجود عمليات فساد في وزارة الداخلية، وكان ينوي فتح الموضوع بهدوء، فما كان من المدفعي سوى أن رد فورا أن هذا يعني دعوة غير مباشرة لتقديم استقالة الحكومة. ارتبك الملك وقال له إنه لا يعني ذلك، فأصر المدفعي على تقديم الاستقالة، وقدمها فعلاً بعد أيام، فلكأنه استحى من نفسه من توجيه مجرد تلميح لفساد في حكومته. وخلاصة القول أن : اللي اختشوا ماتوا، سواء في حمام النسوان بمصر أم في حمام الفساد، في أي مكان، والله أعلم!.